المشهد الراهن والمستقبل
المشهد المصري الراهن شديد الازدحام والتعقيد، ورغم ذلك فإنه يبدأ وينتهي عند نقطة الأزمة التي يعيشها النظام الحاكم، والتي تعيشها البلاد.
ما أهم مكونات المشهد؟
لنبدأ بالأشد بروزا، وهو الإضرابات العمالية المتسعة والمتصاعدة دوما منذ بدايات هذا العام، وان كانت الاضرابات المحدودة والمبعثرة لم تتوقف لسنوات خلت. ورغم أنها الآن ذات طابع مطلبي اقتصادي، إلا أنها تحمل بعض مقاربات سياسية على الأقل بالنسبة للخصخصة والمعاش المبكر وغيرها من السياسات الاجتماعية والفساد المستشري، لكنها تتسم بملمحين بارزين، الأول هو عدم وجود أي تأثير للآحزاب والقوى السياسية داخلها، بل ورفض ذلك (بما في ذلك الأخوان المسلمون)، والثاني هو التضاد بين العمال والتنظيم النقابي.
الملمح الأول وهو غياب تأثير الأحزاب والقوى السياسية، أسبابه معروفة تناولناها سابقا، أما الملمح الثاني وهو التضاد بين العمال والتنظيم النقابي، فيعود إلى ما قامت به السلطة بعد السيطرة الواسعة لليبراليين الجدد على الحكومة، متمثلين في وزراء المجموعة الاقتصادية ورجال الأعمال في مجلس الوزراء، وكذا سطوة لجنة السياسات في الحزب الحاكم. إذ لم تكتف هذه القوى بانهاء الوجود اليساري داخل التنظيم النقابي، وهي السياسة التي كانت متبعة منذ بدايات عهد السادات، بل تجاوزت ذلك إلى التخلص من غالبية النقابيين الموالين للحكومة تاريخيا ، والذين اكتسبوا خبرة واسعة في مساومة جهات الإدارة للوصول إلى حلول وسط مع العمال وتهدئتهم، واستبدلت هؤلاء بعناصر جديدة تصوغ منهم أرستقراطية عمالية تقف في تضاد صريح مع العمال، وأغدقت بسخاء على نقابييها الجدد. وتعتبر حالة شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى حالة نموذجية، إذ يحصل عضو مجلس إدارة النقابة المنتخب من حصة الأرباح المخصصة للعمال على 36 ألف جنيه سنوياً، أي 36 ضعفا ما يحصل عليه العامل. وبذلك تم إلغاء نظام التوزيع العادل لحصة العمال في الأرباح الذي تقرر عام 1961. لقد حدث الانفصام الكامل بين العمال والتنظيم النقابي نتيجة تكريس هذه الارستقراطية العمالية في النقابات، وظهرت في الوقت نفسه قيادات عمالية طبيعية جديدة لم يستطع اليسار الواسع بكل مكوناته أن يتواصل ويتفاعل معها حتى الآن.
ولا يختلف المشهد الفلاحي بالنسبة للاتساع والتنوع الشديد في التحركات الفلاحية، بدءا من الصدامات المباشرة والاعتصامات، وصولاً إلى الإضراب الجماعي عن الطعام في رفض وصراع مباشر ضد السلطة وقواها الطبقية، كما لا يختلف الوضع بالنسبة للفئات الوسطى من صحفيين ومحامين ومهندسين وأطباء، وحتى القضاة، فمن بقي إذن طالما أن العمال والفلاحين والفئات الوسطى، أي الغالبية الساحقة من الشعب، غاضبة ورافضة ومتحركة بشكل متصاعد ومتسع ومستمر؟
الباقي فقط الطبقة الكمبرادورية التابعة ومن حولها من المنتفعين..
أحزاب المعارضة المدنية كلها عاجزة ومعزولة ، بما في ذلك حزب السلطة اذ لا وزن له.
الإخوان المسلمون فقط هم القوة المنظمة واسعة الانتشار، ولكنهم معنيون فقط بالمناورات السياسية، وخطابهم السياسي وفي القضايا الاجتماعية متناقض وملتبس، مثلما الحال بالنسبة للقضية الوطنية والعلاقات مع الغرب الإمبريالي والولايات المتحدة بالذات، ومشروع أول برنامج سياسي لهم - تم تسريبه مؤخرا – يقوم في جوهره على أمرين: الأول هو الدولة الدينية، والثاني هو المشروع الرأسمالي التابع، وقيادة القطاع الخاص وتقديس الملكية الخاصة. وهم ممثلون بقوة في الطبقة الكمبرادورية (سواء في النشاط الواسع جدا في القطاع التجاري والطفيلي أو ضمن بورجوازية المدن الجديدة مثل العاشر من رمضان). أي أن هدفهم الوحيد هو اقتناص السلطة مع ابقاء الأساس الاقتصادي – الاجتماعي على حاله، والارتداد سياسياً بتكريس حكم مطلق بغطاء ديني حسب تصوراتهم وتوجهاتهم الوهابية.
الأفق
هذا هو المشهد في عمومياته، يبدأ وينتهي عند نقطة الأزمة التي تعيشها السلطة والمعارضة على السواء، أي أنها أزمة شاملة.
لكن الصراع الطبقي يحتدم في جدل مع الوطني والقومي والديمقراطي، وهو وضع شبيه في كثير من وجوهه بالمشهد المصري أوائل عام 1952، مع بروز واضح للصراع الطبقي والنضالات العمالية المطلبية، لكن السمة العامة الأولى التي تجمع بين المشهدين هى عجز السلطة عن الاستمرار بالمناورة وانحصار الخيارات في خيار واحد هو فتح السجون، وهو ما تتسارع وتيرته الآن، وحينما يتلاشى تعدد الخيارات، تكون الأزمة بلا حل. أما السمة الثانية فهي عجز المعارضة السياسية عن الفعل رغم الحضور القوي للإخوان المسلمين، لكن الإخوان مرفوضون من قطاعات هائلة من الشعب ومن قوى وطنية هامة.
أفق أرحب!!
لقد ولى إلى غير رجعة الركود في حركة الجماهير، ورغم الصعوبات والمعوقات الهائلة، فإن ثمة عاملاً سيكون بالغ التأثير على الأوضاع في مصر. يتمثل هذا العامل في الاحتمالات المؤكدة للعدوان على الشقيقة سورية، وعلى إيران. سواء تم هذا العدوان على مراحل (أي على سورية أولاً، ومن بعدها إيران) أو تم متزامنا. وسواء كان أمريكيا أو اسرائيليا هنا أو هناك، أو كان أمريكيا اسرائيلياً متزامنا من كليهما .
هذا العدوان لو حدث - ولا نريده بالطبع أن يحدث – سوف يشعل المنطقة، وسوف يؤثر عميقا على مصر، وسوف يتفاعل هذا الحدث الجلل مع التوترات القائمة في مصر، وسوف يكون له فعله في ظل وضع ينتظر شرارة. ورب شرارة أشعلت النار في السهل كله.