عوني صادق- كاتب فلسطيني عوني صادق- كاتب فلسطيني

العاقل من اتَّعظ بغيره!

خاص قاسيون

لقاءات الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مع قادة (حماس)، كما تصريحاته بعد تلك اللقاءات حول ما تم بحثه مع هؤلاء القادة، نكأ ونكأت جروحاً قديمة لم يبرأ الفلسطينيون بعد منها، وربما الأصح أن نقول إن ما يعانونه اليوم من أزمات ومشاكل، وما تتعرض له قضيتهم الوطنية من مخاطر وتهديدات، يرجع لذلك الجرح وما نجم عنه من جروح لم تندمل.

بداية هناك مسألتان منهجيتان لا بد من التأكيد عليهما قبل أن نناقش الموضوع الذي نحن بصدده. الأولى، يجب أن ننوه بأنه لا أحد في الولايات المتحدة الأميركية يشغل أو كان يشغل، أو يمكن أن يشغل موقعا رسمياً أو شبه رسمي، يمكن أن يفكر في مصلحة الشعب الفلسطيني أو مصلحة أي شعب آخر، بل إن الإدارات الأميركية كثيراً ما لا تفكر في مصلحة الشعب الأميركي ذاته بل في مصلحة الاحتكارات الكبرى ومصلحة المجمع العسكري- الصناعي الأميركي. وإذا كان ممكنا أن يفكر أميركي من الطبقة الحاكمة في مصلحة غير مصلحة هذه الطبقة فستكون دون شك هي مصلحة إسرائيل. لذلك لم يكن من الحكمة أن يقع قادة حركة (حماس) في وهم أن كارتر تعاطف مع الحركة بسبب فوزها في انتخابات ديمقراطية ونزيهة، أو تأثر بمعاناة الشعب الفلسطيني المحاصر، أو أنه يهمه حقاً ما يسمى (إحلال السلام في المنطقة). ولا يجب أن يخدع أحداً حصوله على جائزة نوبل للسلام، فالسلام الذي استحق عليه الجائزة كان سلاماً إسرائيلياً- أميركياً ولمصلحة إسرائيل وأميركا.

المسألة الثانية، أنه من حق أي تنظيم سياسي أن يسعى للوصول إلى السلطة. والتنظيم السياسي الذي يزعم أنه لا يهتم بالسلطة يكذب على من يخاطبهم، أما التنظيم السياسي الذي لا يهتم بالفعل بالسلطة فمن الأفضل له ولغيره أن يحول نشاطه إلى جمعية خيرية. لذلك، سعي أي تنظيم سياسي إلى السلطة هو أمر طبيعي، وحق مشروع ما دام يرى في نفسه الجدارة. لكن ذلك يكون في ظل دولة قائمة مكتملة الأركان والعناصر. أما التنظيم السياسي الجدير بالاحترام في بلد تعرض للاغتصاب ويخضع ما بقي منه للاحتلال، فالأمر مختلف. ومهمة التنظيمات السياسية الوطنية تتلخص في مقاومة وطرد الغاصب المحتل وتحرير البلد أولاً، حتى يصبح ممكناً إقامة الدولة. وفي فلسطين يوجد اغتصاب واحتلال ولا توجد دولة.

بعد ذلك ندخل في موضوع هذا المقال... كثيرون رأوا أنه عندما قررت حركة (حماس) المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة في العام 2006، كانت قد قررت تغيير برنامجها، الذي لم يكن حتى ذلك التاريخ قد تجاوز مشروع المقاومة من أجل التحرير، والذي لم يكن فيه ما يشير إلى أي برنامج سياسي، ويدل على هذا اسم الحركة الذي ماتزال تعرف به حتى اليوم، أي (حركة المقاومة الإسلامية). من هنا كان البعض لا ينظر إلى الحركة كحزب سياسي، بالرغم مما هو معروف عن علاقاتها وأصول قادتها وارتباطاتهم الأيديولوجية بجماعة الإخوان المسلمين، بل ينظر إليها كحركة مقاومة جاءت لمواجهة وقتال المحتلين، وتحرير الأراضي المحتلة.

لكن عندما قررت الحركة أن تشكل الحكومة، مصرة على استعمال (التفويض) الذي أعطتها إياه صناديق الاقتراع، كما قال قادتها، أصبحت المسألة خارج نطاق التخمينات، وبدأ الموقف الجديد يطرح تساؤلات كثيرة، بعضها قديم وبعضها جديد. فمن جهة، دخلت حركة (حماس) الانتخابات التشريعية وهي تعرف أن الأراضي الفلسطينية خاضعة للاحتلال، وأن سقف ما يمكن أن تمارسه أية سلطة، في أي مستوى في هيكل المسؤولية، سيكون تحت سقف (اتفاق أوسلو) الذي رفضته ولم تعترف به. وإذا كان نظرياً يمكن أن يقال إن دور المجلس التشريعي لا يفترض التعامل مع العدو المحتل، فإن دور الحكومة لا يسمح بقول ذلك، خصوصا إذا أريد أن يكون لهذه الحكومة دوراً أو حاجة أو معنى بأي مقياس. من جهة ثانية، لم يطل الوقت حتى وقعت أحداث الحسم العسكري في حزيران 2007 في غزة، (دون نكران بأن دحلان ودايتون هما من دفع الوضع إلى نقطة الحسم)، فحسمت التخمينات وجعلت الأمور أكثر وضوحاً. فالصراع المستمر والدامي على السلطة، التي تقول حركة (حماس) بأنها سلطة وهمية، ليس له من معنى إلا الرغبة في هذه السلطة والتمسك بها.

والتمسك بسلطة وهمية يفرض أشياء كثيرة، أولها العمل على أن لا تكون وهمية. ولأن الولايات المتحدة الأميركية هي التي أصبحت تقرر في منطقتنا ما هو وهمي وما هو حقيقي... صار لا بد من السعي إلى اعتراف هذه الولايات المتحدة بمن يريد سلطة حقيقية (مع ملاحظة أنها تعترف بالرئيس محمود عباس لكن اعترافها لم يجعل سلطته حقيقية!). وعليه، يرى البعض أن حركة (حماس) منذ قررت دخول (العملية السياسية)، عبر التشريعي فالحكومة، تريد أن ترث حركة (فتح) التي بدت لها أنها تجاوزت عمرها الافتراضي، بعد غياب قائدها ياسر عرفات. وفي هذا السياق جاءت مشاركتها في الانتخابات التشريعية وتشكيل الحكومة وبدأت تسعى إلى اعتراف (المجتمع الدولي) وزعيمته بها. وفي ظروف الحصار الشديد الذي تتعرض له تحرك كارتر وجاءت لقاءاتها مع كارتر.

والحقيقة أن سير الأمور مع حركة (حماس) يذكر بسيرها مع منظمة التحرير الفلسطينية بعد أن استولت عليها حركة (فتح)، مع اختلاف كامل في الظروف العربية والدولية لصالح منظمة التحرير. فمن شعار المقاومة إلى قصة (الاعتراف المتبادل) بين المنظمة وإسرائيل، وصولا إلى دخول ياسر عرفات في العام 1974 إلى الأمم المتحدة وسط التصفيق رافعا غصن الزيتون! بعد ذلك كثرت القنوات واللقاءات والاقتراحات، ثم المفاوضات السرية التي تمخضت عن (اتفاق أوسلو) الذي فتح الباب على المأزق الراهن الذي وصل إليه المشروع الوطني الفلسطيني.

اليوم نسمع خالد مشعل يعلن عن قبوله لدولة فلسطينية في حدود حزيران 1967 وعاصمتها القدس، دون مستوطنات، ومع حق العودة، ودون اعتراف بإسرائيل! التجار يطلقون على هذا العرض (سعر للمساومة يوضع قبل البازار)، لأنه ليس في العالم كله على اتساعه من يتصور أن هذا الكلام قابل للنقاش قبل أن تهزم كتائب القسام إسرائيل هزيمة صريحة واضحة لا مراء فيها. وقد يقال: إنه كلام في إطار المناورات السياسية، وما دام الإسرائيليون سيرفضونه فلن نخسر شيئا، وليس فيه ما يضير! لكن الخوف كله يأتي من المناورات السياسية التي تستسهل المناورة دون قوة تسندها، ودون حساب لما سيأتي بعدها.

غير أن (حماس) أعطت كارتر تعهداً مكتوباً يؤكد بأنها سوف تقبل أي (اتفاق تسوية) تتوصل إليه السلطة الفلسطينية مع الحكومة الإسرائيلية، إذا قبله الشعب الفلسطيني في استفتاء عام! هذا كلام ليس للمناورة، إنه على الأقل كما قال كارتر عنه بحق: «تغيير جوهري في موقف الحركة» لأنه يعني موافقة (حماس) على استمرار المفاوضات الجارية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، حيث لا يمكن التوصل إلى اتفاق دون استمرار المفاوضات! وبالمناسبة، فهذه المفاوضات تجري ليس فقط تحت سقف (اتفاقية أوسلو) بل وتحت مظلة (خريطة الطريق) أيضا. وما نعرفه أن (حماس)، ترفض الاثنتين، وترى المفاوضات (عبثية) وضارة ويجب أن تتوقف، على الأقل إلى أن يتوقف الاستيطان وتتوقف كل الاعتداءات الإسرائيلية. إن هذا التعهد ينطوي على مخاطر كبيرة وشديدة.

إن على حركة (حماس) أن تتذكر التاريخ وأن تتعظ بعبره. عليها أن تتذكر كيف تم الإيقاع بياسر عرفات ومنظمة التحرير... والمؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، وقادة (حماس) على ما نعلم من المؤمنين. وإذا كان المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، فإن العاقل هو من اتعظ بغيره!