تحالفات وتكتلات: أوروبا على خطى التفكك؟
تقع دول الجنوب الأوروبي، إيطاليا واليونان والبرتغال- ولا تبتعد إسبانيا عنها كثيراً، ضمن قائمة الدول الأعلى مديونية غير مستدامة في العالم، وفق إحصائية نشرها موقع «ذا ريتشست» في شباط 2015، وتعاني اقتصادات هذه الدول من تدهور متصاعد منذ عام 2008 على أقرب تقدير، نتيجة دورة العجز والاقتراض المستمر من المراكز الأغنى في الاتحاد الأوروبي..
في 5/آب الحالي، دعا رئيس الوزراء اليوناني، أليكسيس تسيبراس، رؤساء دول أوروبا الجنوبية لمناقشة تحالف جديد ضد سياسة التقشف الصارمة للاتحاد الأوروبي، ومن المرتقب أن يعقد في أثينا في 9/أيلول المقبل، مؤتمر بمشاركة كل من فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبرص، ومالطا، كما ستتواصل المحادثات بهذا الشأن خلال زيارة تسيبراس إلى روما، حيث يخطط لحضور اجتماع «الاشتراكيين الأوروبيين»..
انهيارات اقتصادية حادة
قبل الخوض في تحركات دول الجنوب، من المفيد إلقاء نظرة عامة وسريعة على بعض المؤشرات الاقتصادية في السنوات القليلة الماضية. ففيما يخص إيطاليا، التي تعد ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، تقدر ديون البنوك الإيطالية بحوالي 398.8 مليار يورو، بعضها غير قابل للتحصيل، وتحتاج البنوك الأوروبية لدعم رؤوس أموالها لاجتياز اختبار الصحة الذي تجريه منطقة اليورو على مصارفها. وبحسب خبراء مصرفيين أوروبيين، فإن مصرف «يوني كريديت»، أكبر البنوك الإيطالية لن يكون قادراً على اجتياز هذا الاختبار إذا لم يضخ حوالي 10 مليار يورو في رأس ماله.
أما فيما يخص البرتغال، وبعد خطة التقشف التي وضعها صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي، دخلت البلاد مرحلة التقشف الليبرالي المتصاعد منذ عام 2011، ومع توقعات بركود طويل وغير مسبوق في الاقتصاد، أعلن رئيس الوزراء بيدرو كويلهو، آنذاك، البدء بفرض ضرائب جديدة وتسريع وتيرة «برنامج الخصخصة»، وفرض القيود الصارمة على الشركات العامة، كان قد اتفق عليها مع الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد، مقابل الحصول على حزمة قروض دولية بقيمة 78 مليار يورو، لكن كويلهو أعلن في تصريح له عام 2014 عن خروج البرتغال من برنامج الدعم المالي، دون أن تطلب من الاتحاد الأوروبي خط ائتمان وقائي، لتخرج من وصاية الدول الدائنة.
في اليونان، ما تزال الأزمة الاقتصادية ماثلة بعد وصولها إلى حافة الانهيار العام الماضي، قبل أن يهرول الاتحاد الأوروبي لحماية نفسه بالحفاظ على اليونان مرحلياً ضمن منطقة اليورو. ولا تعطي فرنسا مؤشرات أفضل بعد أزمة تعديلات قانون العمل المستمرة حتى اليوم، والمرشحة للتصاعد في الأيام المقبلة، في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة الفرنسية أن البطالة في البلاد سجلت مستويات قياسية بعد أن وصل عدد العاطلين عن العمل في البلاد إلى 3.5 مليون شخص.
بريطانيا ليست البداية!
بعد إعلان نوايا إقامة «تحالف الجنوب» الأوروبي على لسان تسيبراس، صبت التحليلات في تفسير ذلك في خانة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، وهو صحيح إلى حد ما، لكن بحث التحولات الجديدة والمتوقعة في أوروبا من هذا النوع، يتعدى في الواقع الخطوة البريطانية، التي هي أيضاً معبرة عن أزمة أعمق تعيشها منطقة اليورو ككل، في السنوات التي تلت انفجار الأزمة المالية العالمية في عام 2008، هذا على أقل تقدير، بالتالي فإن هذا التحول في التكتلات داخل الاتحاد الأوروبي من المحتمل أن يلعب فيه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دوراً مسرعاً وليس جوهرياً تماماً لبداية تفكك الاتحاد الأوروبي.
للوهلة الأولى يشير إعلان تسيبراس المذكور إلى بداية تحول جذري يفضي إلى استقلال دول الجنوب الأوروبي عن المراكز الأوروبية الكبرى، لكن وجود فرنسا في هذا التحالف يثير تساؤلات جدية حول الأهداف الحقيقية التي تسعى دول الجنوب المأزومة فعلاً الوصول إليها، ففرنسا تعتبر إلى جانب ألمانيا وبريطانيا من المراكز الاقتصادية- السياسية في القارة الأوروبية، لكنها أكثر المراكز تضرراً من الأزمة الاقتصادية التي تعم القارة، وبالتالي يمكن التنبؤ بأن وجود فرنسا ضمن هذا التحالف مؤشر أولي على نشوء تكتلات هي في العموم: بريطانيا ودول أوروبية أخرى (داخل المركب الأمريكي)، ألمانيا ومعها أيضاً مجموعة من الدول المحيطة بها، علماً بأن ألمانيا الأكثر استقراراً بالمعنى الاقتصادي مآلها في نهاية المطاف هو الاقتراب من أوراسيا كمجال حيوي موضوعي لهذا المركز الاقتصادي الهام عالمياً، أما التكتل الثالث فمن المتوقع أن فرنسا ستكون الأقرب لتسيده رغم أن المبادرة ظهرت من الجانب اليوناني.
في نيسان من هذا العام، أصدر تسيبراس، مع رئيس الوزراء البرتغالي المنتخب حديثاً حينها، أنطونيو كوستا، بياناً يدعو لوضع حد لسياسات التقشف، وجاء في البيان: «سياسات التقشف تبقي الاقتصادات في حالة من الضعف، وتؤدي إلى انقسامات في المجتمعات».
لكن بالملموس، فإن ما يطرح كله حتى اليوم من قبل حكومات الدول المتضررة، لا يعدو كونه «نقمة» على سياسات التقشف، لكن ما جاء به تسيبراس الراضخ أصلاً لشروط الاتحاد الأوروبي العام الماضي، بعد وصوله إلى سدة الحكم لا يشي بتغيرات بنيوية في إدارة اقتصادات «دول الجنوب»، إذا كانت على الشاكلة نفسها: واجهات «اشتراكية» ترقيعية، بحكم دخول فرنسا (المركز)، على خط تشكيل هذا التحالف.