حتى لانخسر بالسياسة ماربحناه بالصمود والقتال!
جاء وقف إطلاق النار من جانب حكومة العدو، بعد ثلاثة أسابيع من بدء الحرب الوحشية على الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة، وقبل ثلاثة أسابيع تقريباً من موعد الانتخابات البرلمانية في كيان العدو، وقبل ثلاثة أيام من وصول أوباما للبيت الأبيض، حيث يحرص قادة العدو على (تمكين الرئيس الأميركي الجديد من تسلم طاولة نظيفة عند دخوله المكتب البيضاوي) كما يقول «رون بن يشاي» في موقع «يديعوت» قبل أيام وتحت عنوان «وقف النار المشروط». وهذا ماأكده أيضاً الكاتب «بن كاسبيت» في صحيفة معاريف قبل يومين (هو لن يغفر لنا أبداً إذا استقبلناه في منصبه الأصعب في العالم، وفي ذروة أزمة اقتصادية عالمية لم يسبق لها مثيل، مع مايجري في غزة). وهذا التوقيت لم يكن سببه الرئيسي تلك الأجندة اليومية المرتبطة بالحسابات الانتخابية فقط، بل جاءت النتائج الميدانية لتبدد فعلياً إمكانية تحقيق نصر سريع وخاطف على قوى المقاومة. فالصواريخ والقذائف الفلسطينية «أكثر من ألف وثلاثمائة منها» لم تتوقف عن التساقط على المدن والمستعمرات والقواعد العسكرية طوال فترة الغزو، بل أن دائرة استهدافاتها كانت تزداد يوماً بعد يوم. كما أن تصفية الوجود السياسي والعسكري لجسم المقاومة بكافة تلاوينه ومسمياته، أصبحت نوعاً من السراب، بما يعنيه ذلك من عدم استرداد جيش العدو لـ«قدرته على الردع»! تلك القدرة التي سقطت مصداقيتها تحت أقدام مقاتلي حزب الله، وصمود الشعب اللبناني خلال الحرب العدوانية في تموز 2006. ناهيك عن أن مهمة «تحرير» شاليط من الأسر، أصبحت بعيدة المنال، نتيجة فشل استخبارات العدو من التوصل لأية معلومات عن مكان وجوده.
لم تكن هذه المقدمات وحدها هي التي دفعت- رغم أهميتها- العدو لوقف حربه النازية على شعبنا، فالصمود الجماهيري، رغم فداحة الخسائر «أكثر من 1310 شهيد وشهيدة، ومايفوق 5350 جريحاً وجريحة» بدون احتساب ماتخفيه تحتها آلاف الأطنان من بقايا المباني الاسمنتية المدمرة من الجثث، نتيجة إلقاء الطائرات فقط، لمايقارب المليون ونصف المليون من الكيلوغرامات من المتفجرات الحارقة، على مليون ونصف المليون من المواطنين. إنها التوزيع «العادل» للمطر القاتل الذي تسقطه الآلة الحربية الأمريكية/الصهيونية على رؤوس شعبنا، خلال ألفين وسبعمائة غارة جوية، ناهيك عن الحمم التي قذفتها مدافع الدبابات والسفن الحربية، ورشاشات الآليات المدرعة وبنادق الجنود. لقد أسقط الصمود الأسطوري للشعب، الملتف حول خيار المقاومة أوهام الرهان على تحول الشعب من موقف الداعم للمقاومة، إلى موقف النابذ لها، وهذا ماعبّرت عنه أحاديث النساء والشيوخ والأطفال وهم يبكون شهداءهم ويلملمون أشلاء أحبتهم تحت نيران قنابل الفسفور والصواريخ، وهو ماظهر جلياً في الجنازة المهيبة التي حملت جثمان القائد الشهيد سعيد صيام. ومع كل غارة جديدة، كان الالتفاف حول المقاومة، ثقافة وممارسة، يتعزز بوضوح، ويدلل في جانب آخر على فشل وهزيمة كل المراهنين على «حتمية»(!) الاستسلام.
لم يكن إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، عنواناً لانتصار محقق، حاول قادة الحرب «أولمرت وباراك» تقديمه للداخل والخارج، في حين تأخرت ليفني في عودتها من واشنطن، بسبب توقيعها مع كونداليزا على وثيقة التفاهم الأمنية/العسكرية المشتركة لمراقبة الأرض والسماء والبحر من أجل منع السلاح عن المقاومة في غزة. النصر الموهوم عسكرياً، كما يقول قادة سياسيون وعسكريون وصنّاع رأي عام، حاول القفز فوقه قادة العدو، بالعبور نحو مكاسب سياسية ودبلوماسية توفر الإمكانية لـ«تجميل» الصورة الإرهابية للكيان كما نقلتها أجهزة الإعلام المرئية. وإذا كان أولمرت قد أكد «أن الحرب قد حققت أهدافها» فإن «غابي أشكنازي» رئيس الأركان، والقائد الأبرز في جيش العدو، يؤكد بـ(أن العملية العسكرية لم تنته بعد)!. كما أن قادة الأحزاب المتصارعة على كسب المزيد من الأوراق الانتخابية، تحدثوا بعد قرار وقف إطلاق النار عن رفضهم لقرار الطاقم الحكومي. فقد أعاد زعيم الليكود بنيامين نتنياهو التشديد على (أن وقف النار يعني إعادة تسلح حماس عبر الأنفاق). كما نعق المجرم العنصري أفيغدور ليبرمان رئيس الحزب الفاشي «إسرائيل بيتنا» بـ(أن حماس ستنال في نهاية الحرب ما كانت تطالب به من فتح للمعابر وستستمر في بناء «حماستان» في غزة). لقد جاء الإعلان عن وقف إطلاق النار كنتيجة مباشرة للزيارات المكوكية التي قام بها عاموس جلعاد المسؤول السياسي والأمني في وزارة الحرب للقاهرة، والتي وضعت مع عمر سليمان وطاقم إدارته، الأساس النظري والعملي لهذه الخطوة.
لقد فرض التصعيد اليومي لمراحل الحرب والمواجهة، نوعية جديدة من التحركات السياسية داخل الساحة الإقليمية والدولية. وإذا كانت حرارة التحرك الجماهيري في كل عواصم ومدن العالم قد صفعت وبقوة الهمجية الوحشية لقوات الغزو، فإنها وبذات الوقت قد وحدت موقف قوى الحراك الشعبي بوجه سياسة الإبادة التي تقوم بها قوات جيش الاحتلال. لكن التباين بمواقف حكومات النظام الرسمي العربي، ولّدَ تجاذبات واصطفافات وجدت تعبيراتها بتعدد القمم! فما بين الرياض والدوحة والكويت تراوحت لغة المواقف، وأشكال التعامل مع المذبحة. ويُسجل لقمة غزة الطارئة في الدوحة، التي انعقدت بمن حضر (!) بسبب مواقف الضغط الهائلة التي قامت بها حكومتا الرياض والقاهرة لتقليص عدد الحضور، مواقفها المتقدمة في قراءتها ورؤيتها للحرب المفتوحة على شعبنا وقضيتنا، وهو مافرض حضوراً قوياً لغزة على بنود «قمة الكويت الاقتصادية» التي التأمت في ظل تباينات واضحة، واكبت التعامل العربي الرسمي منذ بدء الحرب على غزة. وعلى الرغم من أجواء التوتر التي أشاعها التحرك المصري، وخطاب مبارك «النرجسي» المتوتر، فقد جاء خطاب الرئيس بشار الأسد، بصفته رئيس الدورة الحالية للقمة، قومياً بامتياز من خلال تأكيده على ثوابت العمل الوطني/القومي من خلال تشديده على ماجاء في بيان الدوحة، وتشديده على إرهابية الكيان الصهيوني، وعلى أن (المقاومة أساس لبقائنا واستمرارنا). خطاب الملك السعودي فاجأ الجميع- حتى أعضاء الوفد السعودي- فقد تضمن دعوة تصالحية واضحة، تأسست على رؤية نقدية لمسار العمل العربي الرسمي، في محاولة لصب الماء البارد على الرؤوس الحامية، التي لم تستطع تحمل لغة الخطاب التصالحية، والذي جاء استدراكاً لخطورة التحرك الشعبي الذي فضح تواطؤ ومشاركة «البعض» في المذبحة، وكمحاولة لحفظ ماء الوجه! وهو ما دفع ببعض القادة للمغادرة. لكن شكلية المصالحات بين أكثر من طرف، لم تستطع أن تفرض الموقف المتقدم الذي تضمنه بيان قمة الدوحة على الصياغة النهائية لبيان قمة الكويت، فخرج البيان بصيغته العامة التوافقية.
مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بعد (إعلان فصائل المقاومة الفلسطينية عن وقف لإطلاق النار من طرفها في قطاع غزة، وتأكيدها على مطلبها بانسحاب قوات العدو خلال أسبوع، مع فتح المعابر والممرات لدخول المساعدات الإنسانية والإغاثية والاحتياجات اللازمة لشعبنا في القطاع)، تكون الحركة الوطنية الفلسطينية قد دخلت مرحلة «مابعد غزة»، بكل ماتفرضه الحقائق الجديدة على أرض الصراع من مهام محددة، وهو ما يتطلب من جميع القوى الوطنية المقاتلة، الحذر والتنبه والحيطة، من تلك الألغام والكمائن التي تنتظرها، تارة عبر بوابة إعادة الإعمار، وتارة أخرى تحت عنوان وحدة الموقف الفلسطيني «وهل هناك موقف واحد وموحد من قضية الصراع مع العدو؟»،والأخطر في كل هذا، مايتحدث عنه «البعض» حول تهدئة طويلة، تحمل في طياتها، أجندة خطيرة لتمييع الصراع مع العدو المحتل للوطن. إن الرد على كل ذلك يتطلب قيادة وطنية جذرية، تعمل على صياغة برنامج وطني شامل لمواجهة مهمات المرحلة القادمة داخل الوطن التاريخي، وفي مواقع اللجوء والاغتراب، والعمل الجاد والسريع من أجل توفير مستلزمات الحياة الكريمة للشعب العظيم الذي حقق بشهدائه، ودمائه، وثباته على أرضه، النصر.