أنقرة.. والأدوار الخطرة

يدفع ازدياد اللغط المترافق مع التهليل والتطبيل والتزمير لجملة المواقف «الإيجابية» الصادرة عن وجوه في القيادة السياسية التركية بخصوص التهجم على الكيان الصهيوني وممارساته الإجرامية في قطاع غزة، إلى إعادة طرح جملة من الأسئلة البسيطة والبديهية التي تكشف إجاباتها مباشرة عن عدم جدية أنقرة في تلك المواقف، بل عن خطورتها.

وتزداد أهمية هذا الفضح مع التعمية التي نجحت وجوه أنقرة في نشرها ليس فقط في صفوف المواطنين العاديين، بل في مجالس ومؤسسات السياسيين و«نخب المثقفين»، وحتى في صفوف الإعلاميين. ووصل الأمر ببعض الناس الذين أُخذوا بصور انسحاب رجب طيب أردوغان غاضباً من الحوار مع مجرم الحرب الصهيوني شيمون بيريز في دافوس، وما تلاه من استقبال شعبي حاشد له في أنقرة كالأبطال، إلى حد التمني أن يتمكنوا من التوجه إلى تركيا للقاء أردوغان وشكره على موقفه، وذلك على وقع الاستياء من تخاذل مواقف قادة دول «الاعتلال» العربي، تماماً مثلما تكونت لديهم الرغبة، ولاتزال، في رؤية الأماكن والشخصيات الداخلة في تصنيع الدراما التركية التي تغزو مجتمعاتنا العربية بوتيرة متسارعة، على نحو لافت، عبر شاشات محددة، ولكن باستخدام الدبلجة باللكنة السورية المحببة، وبنجاح!

بالعودة للأسئلة، فلو كانت تركيا جادة جذرياً بمواقفها من الكيان الإسرائيلي (كما برزت فنزويلا وبوليفيا)، وتريد أن تحول هذه المواقف إلى رافعة حقيقية للموقف الإسلامي والدولي المناهض للإجرام الإسرائيلي، فلماذا لم تقرنها بإعلان قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل؟ ولماذا لم تطرد السفير الإسرائيلي؟ ولماذا لم تلوح على الأقل بوقف التعاون الاقتصادي أو العسكري والتنسيق الأمني سواء مع إسرائيل أو حليفتها الأولى الولايات المتحدة؟ أو حتى لماذا لم تلوح بتجميد العمل باتفاقات إمداد الغاز والمياه المحلاة للكيان الإسرائيلي؟

ولأن أحداً لم يسمع بحدوث أي من ذلك فإن الاكتفاء بالإدانات اللفظية (على أهميتها النسبية)، مع المواقف الدراماتيكية، يعني استمرار كل ذلك (على خطورته المطلقة)!

وهذا يعني من جانب آخر وجود سعي حثيث ومدروس ومنسق للوصول إلى جملة من الغايات، داخلياً وإقليمياً!         

على مستوى الداخل التركي ظهرت حكومة أردوغان-غل متوافقة مع شعبها المستاء فعلياً كغالبية شعوب العالم مما جرى في غزة. وبالتالي أُريد من «استقبال الأبطال» في أنقرة توظيفه في الانتخابات المقبلة. ومن جانبها لم تجد المؤسسة العسكرية النافذة في تركيا ضيراً في ذلك طالما بقيت تلك الحكومة ضمن الهوامش التي لا تضر عملياً بثوابت التحالف مع تل أبيب وواشنطن والأطلسي. وهذه المؤسسة ذاتها، الموصوفة بالقومية والعلمانية، وفي ضوء تغاضيها عن «شطط» أردوغان غير المألوف ظاهرياً، و«الخلبي» عملياً، ستظهر بمظهر المتوافق مع مشاعر الأتراك وحكومتهم، ولكنها لم تتوان عن التلويح بانتقاد و«تصويب» بعض تصريحات أردوغان ومواقفه، حتى «لا يصدق نفسه»، وهو الذي يعرف أنه إذا تجاوز «الخطوط الحمراء»، فسيتعرض مع حزبه لجملة جديدة من المضايقات، التي يبقى في غنى عنها مع اقتراب الانتخابات، تماماً مثلما هي الحال مع الشعب التركي الذي لو كانت تظاهراته المليونية تذهب في اتجاه لا تريده المؤسسة العسكرية «لغاية في نفس يعقوب» لقوبلت بالقمع والتضييق، علماً بأن هذه التظاهرات الهامة ذاتها اقتصرت على معاداة إسرائيل الفاقعة في إجرامها، واستبعدت حليفتها الأمريكية فيما وراء البحار، تخفيفاً عن واشنطن والشاغل الجديد لـ«بيتها الأبيض» في مستهل إدارته. 

على المستوى الإقليمي يجري طرح الدور التركي كمقابل للدور الإيراني، في ظل معطيين أولهما غياب الدور العربي الفاعل بسبب انقسام العرب- أصحاب القضية الأصليين- إلى «معتدلين» و«ممانعين»، وثانيهما إلباس الدورين المذكورين، وبدفع مباشر من معسكر «الاعتدال»، لبوس التقسيم القومي والديني والمذهبي والطائفي المؤجج أمريكياً في المنطقة. وبالتالي يجري نفخ الروح في مفردة «العثمانيين» مقابل «ضرورة مواجهة الخطر الفارسي، غير العربي»، ضمن منطق خلق «حلفاء وهميين» في مواجهة «أعداء وهميين»، وذلك في وقت تعلن طهران عداءها المطلق للكيان الإسرائيلي، بينما وضعت تركيا «قدماً» في الدوحة، و«أخرى» في شرم الشيخ، وحتى «ثالثة» في كوبنهاغن، التي استضافت مؤتمراً «لمنع تهريب السلاح إلى غزة» بمشاركة خبراء من الولايات المتحدة وبريطانيا وهولندا وكندا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والنرويج، مع مراقبين من «إسرائيل» والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، الذي تعد تركيا القوة الثانية فيه.

ويعد مؤتمر كوبنهاغن في حد ذاته ترجمة عملية ثانية لمذكرة التفاهم الأمنية التي وقعتها الولايات المتحدة وإسرائيل في السادس عشر من الشهر الماضي، والتي تصل مفاعيلها للقرن الأفريقي بـ«قراصنته الجدد»، علماً بأن الترجمة الأولى كانت في شرم الشيخ التي أفرزت تحت الذريعة ذاتها تحالفاً للمراقبة البحرية بين «إسرائيل» ومصر وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وحلف الأطلسي، وأيضاً بعضويه الأساسيين، واشنطن وأنقرة!

وبينما يؤدي تنامي الدورين الملتبسين لأنقرة والدوحة اللتين تشكل العلاقة الحميمة والمباشرة مع الكيان الإسرائيلي قاسماً مشتركاً بينهما، إلى مواصلة المساعي لاحتواء ومصادرة فاعلية الأدوار الإقليمية للأطراف والدول التي تعلن العداء لإسرائيل ومشاريع الهيمنة في المنطقة، مثل سورية، فإن هذين الدورين يريدان كذلك احتواء المقاومة وتقييدها، من خلال التودد وادعاء الانتصار لها والقول مثلاً «أنه لا يمكن تحييد حماس». وهو كلام حق يراد به باطل يتمثل في السعي لتمرير ترتيبات وإجراءات أمنية يراد منها عملياً تضييق الخناق على المقاومة في غزة ولبنان وسورية وإيران. ومفهوم أن إرسال المركب اللبناني والباخرة الإيرانية إلى غزة هو بالون اختبار وتحد لهذا التوجه، في وقت قام فيه كبار المسؤولين الأتراك بزيارة قطر بعد السعودية للإشادة بدورهما في «تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية»(!) والسؤال مرة أخرى هو: وحدة على أي أساس، مقاوم أم مهادن؟

وفي هذه الأثناء تؤكد حماس أنها لم تتلق من مصر، وعبرها، أية ضمانات من الجانب الإسرائيلي بـ«الهدنة»، سوى وعود مصرية «بمواصلة المساعي لتحصيل ذلك»، في حين تتواصل المساعي الغربية، بـ«أدوات صديقة» لتحييد الدور السوري، واستعداء إيران عربياً، في وقت تلوح فيه إسرائيل بالحرب مع سورية.

صحيح أنه ليس كل ما يعرف، في السياسة والتحليل السياسي، يقال في الدبلوماسية وعلاقاتها، والعكس صحيح، ولكن الثابت أن السياسة تفهم في نهاية المطاف لغة القوة والمصالح ضمن معطيات إقليمية دولية محددة، وهي لا تتعلق في كل الأحوال بموقف إنساني يواصل أردوغان العزف على أوتاره. ويبدو أن ما ترسمه أنقرة من صورة لها في أذهان المواطن العربي بخصوص غزة حالياً هو تحضير له لتقبل ما سيجري غداً بالارتباط ببقية قضايا المنطقة وشبكة إحداثياتها الجديدة بما فيها تلك المتعلقة بالعراق ومساعي تفتيته وتسعير الصراع بين مكوناته العرقية والطائفية، وهو ما نتركه لحينه.. فللحديث بقية..

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.