جهاد أسعد محمد جهاد أسعد محمد

السياسة الأمريكية في جنوب آسيا بين الاستعداء والاستجداء

لا يحتاج المتتبع لأوضاع وظروف «الحضور الأمريكي الثقيل» في آسيا الوسطى لكثير عناء قبل أن يكتشف أية مآزق كبرى تلك التي يتخبط فيها الأمريكيون بفعل تعاظم التداعيات السلبية لنتائج سياساتهم المحكومة بتصدير الأزمات الداخلية الأمريكية المستعصية، والرغبة في الهيمنة على مصادر الطاقة العالمية، المتبعة منذ نحو عقد من الزمن..

فمن خلال تسارع تحركات الساسة الأمريكيين الجدد في أكثر من اتجاه لحفظ ماء الوجه في أفغانستان، والاستمرار في إطباق السيطرة على باكستان، والحفاظ على مستوى العلاقات الهشة والطارئة مع دول خطوط الإمداد وعلى رأسها كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان، يبدو اللهاث الدبلوماسي لسادة البيت الأبيض، ورثة بوش الابن، محموماً وأكثر ميلاً للعدوانية لإبقاء ما هو قائم قائماً، بل وتوسيعه لشن عمليات عدوانية جديدة ضد كبار المنافسين والخصوم الإقليميين على المدى الاستراتيجي..

فواشنطن التي خسرت قاعدة ميناس الجوية في قرغيزستان، والذي تزامن مع فشلها في إقناع معظم حلفائها الأوروبيين بإرسال تعزيزات عسكرية إضافية إلى الأراضي الأفغانية، ولم يبق أمامها إلا السعي لمضاعفة قواتها التي تحتل أفغانستان إلى أكثر من 60 ألف جندي، تحاول الآن عبر باتريك مون مساعد وزيرة الخارجية والمكلف بالملف الأفغاني والباكستاني لمفاوضة موسكو بشأن خطوط الإمداد إلى أفغانستان لتأمين مساعدات كبيرة لدعم حكومة كابل في مواجهتها لحركة طالبان التي أصبحت تنقض على طرق الإمداد التقليدية عبر باكستان، وفتح طرق إمداد جديدة عبر الأراضي الروسية، وهذا التوجه فيما يبدو، لا يلقى ترحيباً يذكر من الجانب الروسي؛ إذ يصر الروس على أن المواد التي ستعبر أراضيهم يجب أن تكون حصراً «مواد غير عسكرية»..

ومع ارتفاع اللهجة العدائية الأمريكية تجاه التابعين الصغار في كل أنحاء العالم، وتصاعد التلويح بإسقاط الرؤوس والحكومات، بدأت تخرج من هناك وهناك في الدول التابعة أصوات فيها إشارات أولية باحتمالات التمرد على القرار الأمريكي، ولعل تصريح وزير خارجية باكستان شاه محمود قريشي للمبعوث الأمريكي ريتشارد هولبروك، والذي أكد فيه: «أن على الولايات المتحدة عدم التعويل على القوة العسكرية وحدها ومد يد الحوار إلى عناصر تصالحية في طالبان» قد يحمل شيئاً من هذا القبيل، خصوصاً وأنه يأتي بعد تصريحات أوباما بشأن القاعدة وطالبان، حيث أصر أن هؤلاء «وجدوا ملاذاً آمناً في باكستان» وذلك في سياق إعلانه عن مراجعة السياسة الأمريكية باتجاه أفغانستان وباكستان، والذي يتوقع أن يأخذ منحى متناقضاً في الظاهر في خلطه الأوراق لجهة «استعداء» باكستان، وإظهار «الاستعداد» للحوار مع طالبان «استجداءً».. 

إن سادة البيت الأبيض، قدماءهم ومستجديهم، باتوا يدركون أن القوة العسكرية الضاربة التي تحولت مع تتالي الحروب العدوانية إلى ناطق رسمي باسم الولايات المتحدة في معظم الأحيان، لم تعد تؤدي ذلك الدور المخلّص الذي يمكن الاعتماد عليه، لاسيما بعد الضربات الكبيرة التي راحت تتلقاها بشكل مباشر في كل من العراق وأفغانستان، وبشكل غير مباشر في فلسطين ولبنان، ولكنهم في الوقت ذاته يدركون أن لا مخرج لهم، ولو مؤقتاً، من أزماتهم المتلاحقة والمتراكمة إلا عبر هذا السبيل، لذلك يصرون، وسيصرون أكثر في المستقبل القريب والمتوسط على اتخاذه وسيلة ربما تكون الوحيدة والأخيرة لفعل ما يمكن فعله قبل الانهيار العظيم لإمبراطوريتهم المتداعية، وهو القادم لا محالة..

mjihad@kassioun