موعد مع «حسن نصر الله»
(..) بدا زعيم «حزب الله» قلقاً على لبنان ومصيره في أجواء إقليمية جديدة، فالرسائل في المنطقة متضاربة، ولا أحد بوسعه أن يعرف بدقة: إلى أين تمضي تفاعلاتها وصراعاتها ومصائرها، وأخذ لخمس ساعات كاملة يروى لـ«محمد حسنين هيكل» تفاصيل كل ما جرى في لبنان وما حوله في الفترة الأخيرة. كان متدفقاً ومسهباً في الحديث من الساعة العاشرة من مساء الثلاثاء الماضي إلى قرب الفجر. وقد تطرق إلى التحولات الإقليمية والأدوار التركية والإيرانية والمصرية على مسارح عاصفة بالنذر والأخطار مع صعود «نتنياهو» إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية.. لم يكن الرجلان قد التقيا منذ أربع سنوات، ورغم أن الرسائل والاتصالات لم تنقطع بينهما، خاصة في اللحظات الحرجة أثناء الحرب على لبنان في يوليو 2006، إلا أن اللقاء الشخصي على انفراد له طبائعه الخاصة...
لم يكن هناك ترتيب مسبق لهذا الموعد المثير في توقيته وتفاصيله، و«هيكل» وحده صاحب الحق في كشف ما جرى فيه، ولم يكن هناك جدول أعمال للحوار، وعندما وصل «هيكل» إلى مطار بيروت الدولي، دون أن يخبر أحداً من الشخصيات السياسية أو من الأصدقاء القدامى عن هذه الزيارة المفاجئة، باستثناء أسرة صديقه القديم السفير اللبناني الراحل «نديم دمشقية» الذي جاء ليعزيها فيه، كان «حسن نصر الله» أول من عرف، واتصل بـ«هيكل» طالباً اللقاء في اليوم ذاته .
(..) وكان «هيكل»- بطبائع الصحفي فيه- يريد أن يسمع وأن يتعرف- بالتفاصيل- على حقائق ما يجري في لبنان، وعلى رؤية لاعب رئيسي وجوهري في تفاعلاته لما يجري حوله في الإقليم، وكان «نصر الله» يريد أن يستمع طويلاً وملياً لما يمكن أن يقوله «هيكل» وينصح به وسط أنواء عاصفة من التحولات والأخطار.
(..) لم تعد مصر كما كانت حاضرة في المشهد البيروتي، وربما كان (هيكل) يودع هناك جزءاً من التاريخ كانت فيه مصر قائدة لعالمها العربي، قبل أن تتدهور أحوالها إلى حد اتهام «قوة مقاومة» بأنها «تنظيم إرهابي»!
ومن المثير أنه في اللحظة التي التقى فيها «هيكل» و«نصر الله» أثيرت في القاهرة ما سميت بـ«قضية حزب الله»، وتشمل لائحة اتهامات خطيرة تتهم «نصر الله» بإصدار تكليفات لـ«تنظيم إرهابي» لارتكاب عمليات عدائية داخل مصر والإخلال بالأمن العام واستهداف منشآت سياحية ومواقع مهمة، غير أن تلك القضية الحساسة لم يتم التطرق إليها في حوار الساعات الخمس، لم تكن المعلومات قد توافرت عنها، وبدا أن هناك ملفات أهم وأخطر من قضية الأسئلة حولها أكثر من الأجوبة.
وفيما يبدو أن «السياسي» يغلب «القانوني» في هذه القضية المثيرة للتساؤلات فى توقيتها وحقيقة الاتهامات الخطيرة التي تنطوي عليها. فالكلام عن «تنظيم إرهابي» يناقض طبيعة «حزب الله»، فلم يعهد عنه القيام بأي عمليات عسكرية ضد أية جهات غير إسرائيلية، بل لقد كرس عملياته، التي أكسبته شعبية كبيرة في أوساط الرأي العام العربي، ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية في الجنوب عندما كانت تحتله، والحزب من هذه الزاوية «قوة مقاومة» لا «تنظيم إرهابي»، وقد دأبت قوى عديدة في الغرب، وفى إسرائيل، على محاولة لصق تهمة «الإرهاب» بـ«حزب الله»، لكن هذه التهمة- بالذات- عجزت عن إثباتها أو تسويغ إطلاقها على المقاومة اللبنانية وزعيمها. قد يصيب ويخطئ «نصر الله»، ولكنه لا يصح في كل الأحوال أن يوصف بأنه «زعيم إرهابي» أو أن المقاومة «إرهابية».
(..) إن التهم تفتقد الإحكام والإقناع معاً، وتحيط بها الشكوك العميقة من الناحيتين القانونية والسياسية. (..) وهناك شيء من العصبية في المعالجات المصرية للعلاقة مع «حزب الله»، فقد أغلقت أبواب الحوار معه، وكان من النادر أن يلتقي زعيمه السفير المصري في بيروت، رغم أن سفراء الدول الغربية يلتقون به بصورة منتظمة، وذات مرة في أبريل عام 2003 استمعت في حوار مع السيد «حسن نصر الله» إلى أنه قد التقى في يوم واحد مع (7) سفراء غربيين وجهوا إليه أسئلة عديدة لاحظ بحس أمني وسياسي أن ما هو مشترك فيها هو مستقبل النظام في مصر، وقال لي يومها إنه أدرك قيمة مصر ودورها بأكثر من أي مرة سابقة، وهو رجل لا يمكن أن يتورط- من هذه الزاوية- في إعلان حرب على مصر والقيام بعمليات تخريبية فيها!
وباليقين فإن تلك العصبية تدخل من ضمن عصبية أفدح وأخطر في العلاقة مع إيران، فبينما تفتح دولة غربية محورية مثل بريطانيا نافذة حوار مع «حزب الله» تغلق مصر كل الأبواب والنوافذ، وبينما تتجه الدولة الغربية الأكبر الولايات المتحدة إلى عقد صفقات مع إيران تعلن مصر العداء معها بصورة تستعصي على الفهم. وبغض النظر عن الجوانب القانونية في قضية «حزب الله» فإن الجوانب الإقليمية تبدو طاغية على الملف، وربما يعود التوقيت في الإعلان عن هذه القضية إلى إدراك متأخر هنا في مصر حول تراجع الدور الإقليمي بصورة فادحة، بعد أن اختار الرئيس الأمريكي باراك أوباما تركيا منصة لإطلاق رسالته إلى العالم الإسلامي، وقد كانت هناك فكرة في البداية لاختيار مصر، وطرحت أسماء دول أخرى مثل إندونيسيا ولبنان، غير أن صعود الدور التركي في معادلات المنطقة وحسابات القوة فيها حسم هذا الاختيار.
وربما أرادت القاهرة أن تقول: «نحن هنا، أو أنه يمكننا أن نتصدى للإرهاب بالتعريف الغربي أكثر من غيرنا»، غير أن المشكلة أن الغرب ذاته باتت له حسابات أخرى أكثر واقعية في التعاطي مع معادلات القوة، التي يبدو أن القاهرة خرجت منها، فقد يزور أوباما المنطقة قريباً، إسرائيل والسلطة الفلسطينية، دون أن يمر على مصر، وهذه سوف تكون إهانة أخرى جديدة وموجعة، وليس من مصلحة مصر أن تتورط في منازعات من مثل هذا النوع، أو أن تسيء إلى ما تبقى لها من سمعة في محيطها العربي، فلن يصدقنا أحد عندما نقول إن «حزب الله» إرهابي، أو أنه كان يتأهب لضرب المنشآت السياحية في مصر، ونحن من الذين يحترمون القضاء المصري، ولا نتمنى له أن يقحم في مثل هذه الملفات، التي يوجد لها سوابق في عهد الرئيس السابق أنور السادات، مثل «قضية التفاحة» الشهيرة، التي اتهم فيها عدداً من ألمع الشخصيات المصرية بالتجسس لصالح السفارة البلغارية، ثم ثبت أن القضية كلها مصطنعة.
أرجوكم: احترموا مصر وما تبقى لها من أدوار في محيطها.. واحترموا عقولنا، ولا تتورطوا أكثر من هذا الحد في هذه القضية.
■ مقاطع من مادة نشرتها جريدة «العربي» المصرية
العدد 1153، تاريخ 13/4/2009