«الاعتذار».. انتصار من على من؟
لا بد من الإشارة إلى أن المصلحة العميقة وراء احتمال تردي العلاقات بين موسكو وأنقرة، كانت ولا تزال أمريكية خالصة، مرتبطة باستراتيجية قوى رأس المال المالي العالمي الإجرامي المعتمدة على قطع الروابط بين روسيا ومجالها الحيوي، وبتعمُّد خلق الأزمات على طول الخط الفاصل بين آسيا وأوروبا، هذا استراتيجياً.
أما تكتيكياً، فقد بُنيت المصلحة الأمريكية من حدث إسقاط المقاتلة الروسية، على أساس تأخير قيام جبهة عالمية واسعة لمكافحة الإرهاب في سورية، فضلاً عن محاولة تعطيل سكة «فيينا» التي كانت في ذلك الحين عنواناً عريضاً للحل السياسي في سورية مهّد الطريق في اتجاه «جنيف3» والقرار الدولي «2254».
كيف ردت روسيا؟
في العمق، أدركت روسيا جيداً أن قطعاً نهائياً للعلاقات مع أنقرة يصب في نهاية المطاف لمصلحة التيار الفاشي داخل الإدارة الأمريكية: استراتيجياً، من خلال عرقلة مشاريع الربط بين آسيا وأوروبا، وتكتيكياً، عبر استفادة واشنطن من الوقت الضائع الذي يخلفه هذا النوع من المناورات التركية على مسارات الحل السياسي للأزمة السورية. فكيف يكون الرد الروسي على المناورة التركية المتهورة في هذه الحالة؟
شرعت روسيا في نشر منظومة الصواريخ «S400» في قاعدة حميميم الجوية شمال سورية، وهي المنظومة التي كان لها دور فعال في ضبط الحدود السورية التركية جواً، بعد سلسلة تجاوزات قامت بها الحكومة التركية نحو الأراضي السورية، ما أثبت في حينه عزماً روسياً جدياً على المضي في عملية مكافحة الإرهاب، بالتوازي مع الجهود الحثيثة على المسار السياسي لحل الأزمة السورية. وفي الوقت الذي جمّدت فيه الحكومة الروسية المشاريع المشتركة مع تركيا المرتبطة باستراتيجية الربط الأوراسي- ولم تلغها نهائياً- وضعت شروطاً ثلاثة «قاسية» على الحكومة التركية: الاعتذار، ومعاقبة المذنبين، والتعويض عن إسقاط المقاتلة الروسية.
بوتين يتلقى رسالة
بعد ثمانية أشهر تلقى الجانب الروسي رسالة كان يدرك أنها ستصله عاجلاً أم آجلاً بفعل موازين القوى الدولية الجديدة. قدّم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، رسالة اعتذار عن مقتل الطيار الروسي قائد قاذفة «SU-24»، معرباً عن رغبة أنقرة بإعادة تطبيع العلاقات مع روسيا، كما ذكر أردوغان في الرسالة أن السلطات التركية فتحت قضية وتحقق مع مواطن تركي يرتبط اسمه بحادث مقتل الطيار الروسي.
في أولى الردود، أعلن المتحدث الرسمي باسم شركة «غازبروم»، سيرغي كوبريانوف، أن الشركة ما تزال مستعدة لاستئناف الحوار الروسي التركي حول مشروع بناء خط أنابيب نقل الغاز الروسي إلى تركيا «مشروع السيل التركي»، بينما أعلن مصدر في وزارة الدفاع الروسية أن لجنة روسية- تركية ستضم عسكريين ودبلوماسيين ستحدد تعويضات تركيا لروسيا مقابل إسقاط المقاتلة، وقد تتجاوز 30 مليون دولار.
بالنظر إلى عمق العلاقات التي تربط تركيا بروسيا، لا يبدو الاعتذار التركي غريباً، ففي مجال الطاقة، هناك عدد من الصفقات التجارية الثنائية، ومشاريع البنى التحتية الكبرى بين تركيا وروسيا، من الممكن لها أن تتأثر بشكل كبير فيما لو استمر الخلاف الدبلوماسي، بما في ذلك البناء المقترح لخط أنابيب الغاز بين البلدين «السيل التركي»، فضلاً عن محطة «AKKUYU» التركية للطاقة النووية.
وباعتبارها واحدة من أكبر عملاء روسيا في مجال الطاقة، تستورد تركيا 55% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من موسكو، و30% من احتياجاتها من النفط أيضاً. أي أن الضرر المحتمل الذي ستتعرض له صفقات البنية التحتية من شأنه أن يكون كارثياً على تركيا، هذا فضلاً عن الخسائر على صعيد السياحة التي تعود على تركيا بما لا يقل عن 96 مليار دولار.
ما الذي تريده تركيا؟
إذا أردنا الابتعاد عن شخصنة الخلاف، وتصويره على أنه «كباشٌ» بين الرئيسين بوتين وأردوغان، لخلصنا إلى أن المعركة كانت تخاض بالأصل ليس ضد أردوغان شخصياً، إنما ضد التيار الفاشي داخل الإدارة الأمريكية الذي كان هو ذاته المستفيد من توريط أردوغان و«حزبه» بما تورطا به من سياسات غير محسوبة انعكست على الداخل التركي نفسه.
وبحسابات الربح والخسارة، من الواضح أن الانتصار كان حليفاً للخط الثابت في قتاله ضد الأذرع الفاشية الجديدة وأدوات عملها، أي أنه حليف لتلك القوى النصيرة لعالمٍ متعدد الأقطاب، في وجه العالم القديم، عالم الهيمنة الأمريكية على الملفات الدولية. وبذلك، يكون الاتحاد الروسي، أحد أهم أركان هذا العالم الجديد، قد وجه ضربة قوية لقوى رأس المال المالي العالمي الإجرامي، فيما اكتفى بكسر الدور الوظيفي الذي تلعبه تركيا لمصلحة واشنطن في الإقليم، و«تأديب» أردوغان، الذي يبدو أن بقاءه في واجهة المشهد التركي مسألة لا تزال غير محسومة.
في المقابل، يبدو أنه هناك توجه تركي للنزول من أعلى الشجرة، إذ انعكس هذا التوجه في إعلان رئيس الوزراء التركي، بن علي يلديريم، أن أنقرة تهدف إلى تطبيع علاقاتها مع روسيا ومصر وغيرهما من جيران تركيا في البحر المتوسط وكذلك البحر الأسود. أي أن التوجه التركي حالياً ميالٌ نحو استعادة جزء من الدور الإقليمي، تمهيداً لعبور المرحلة المقبلة من التنازلات الكبرى دون أن يهدد ذلك كرسي الرئاسة الذي يمسك به أردوغان بقوة.
لم يقتنص «العدالة والتنمية» الفرصة التاريخية التي وفرها التغير الجاري في الموازين الدولية، وصعود قطب «بريكس» وحلفاؤه، لاستعادة النهوض التركي، بعد خريف اقتصادي يكاد يودي بالبلاد. وبعد أن توفرت الفرصة الذهبية المتمثلة بمشروع «السيل التركي»، الذي كان من الممكن أن يعيد الدولة التركية إلى موقف تفاوضي أقوى في التعاطي مع دول الاتحاد الأوروبي، اختار أردوغان ومشغليه ضرب العلاقات الواعدة مع الاتحاد الروسي. فهل هي اليوم بداية لخضوع الحاكم التركي إلى الأمر الواقع عالمياً؟ قد لا يبشر تاريخ الحزب وتوجهاته بذلك، لكن وإن اقتضى الأمر، فالمصلحة الأوراسية وحضورها على جدول الأعمال قد تطيح بوجوهٍ تعمل خلافاً لمصلحة شعوبها.