الهيئة الوطنية... حراك شعبي بامتياز

لم يكن يوم 24 شباط/ فبراير عادياً كغيره من الأيام. فقد شهدت بيروت، وفي مؤتمر صحفي متميز، بحشده الإعلامي «عشرات المندوبين من الصحافة المقروءة، والفضائيات، ووكالات الأنباء»، بيان الإعلان عن ولادة «الهيئة الوطنية الفلسطينية للدفاع عن الحقوق الثابتة». أهمية الحدث لم تكن نابعة فقط من رمزية الشخصيات المؤسسة للهيئة، التي اعتلى منصة المؤتمر عدد منهم، بل جاءت مدعومة ومؤيدة، من عشرات الأسماء التي وقعت على دعوة المشاركة في هذا الحراك «أكثر من سبعين شخصية»، وكذلك من خلال الوثائق المتعددة التي لم يكن بيان الافتتاح/ الإعلان الذي أعلن الانطلاقة العلنية للتحرك، سوى إيجاز مكثف للرؤية النظرية، التحليلية، التي تعتمدها الهيئة في قراءتها النقدية للحالة السياسية الفلسطينية، ولاستشرافها للمهمات المستقبلية.

لقد تمخضت أكثر من ستة أشهر من الحوارات السياسية والنظرية، بين العشرات من الكفاءات الأكاديمية والإعلامية والمجتمعية عن ولادة الهيئة. إذ لم تكن المداولات والتباينات التي تضمنتها العديد من اللقاءات في أكثر من مكان، خاصة، في تجمعات الفلسطينيين في «فلسطين التاريخية والأردن وسورية ولبنان والمغتربات»، سوى الحالة الطبيعية التي تدل على حيوية هذا الحراك المجتمعي وأهميته. وكتجسيد عن حالة الغليان الشعبي، المعبر عن الرغبة في الانتقال من حالة الغليان إلى حالة الفعل، في مواجهة اتفاق أوسلو الكارثي وتداعياته «التنسيق الأمني بما يعنيه من ملاحقة واعتقال القوى المناضلة، التخلي عن شعبنا في فلسطين المحتلة عام 1948، وعن عودة اللاجئين، المهجرين من بيوتهم وممتلكاتهم، و...».  ولهذا فإن ماتضمنته «الوثيقة الجامعة، ومشروع الوثيقة السياسية» التي تمحورت حولها المناقشات الواسعة، أنتج أخيراً، التعريف السياسي/ التنظيمي للهيئة، والوثيقة التي حملت عنوان (بيان فلسطين)، اللذان رسما الطريق، وحددا الأسس التي ستعمل بها لجان وأفراد الهيئة على مدى الأشهر الثلاثة القادمة، وصولاً للمؤتمر الموسع الذي سينتخب القيادات المركزية والمحلية، ويصوغ برنامج العمل.

جاء الحراك الشعبي كتعبير عن رفض غالبية أبناء شعبنا وأمتنا لطريق الاستسلام، المسمى «نهج أوسلو»، الذي حوَّل قيادات وكوادر من حركة التحرر إلى عناصر سلطة بوليسية، قمعية، تنفذ مخططات سلطات الاحتلال، وتتماهى مع سياساته الاقتصادية، التي أدت لنشوء شرائح اجتماعية، طفيلية، تقوم بنهب للأموال التي تقدمها الدول المانحة، وتمارس دور الوسيط/ الوكيل، عبر ربط الوضع الاقتصادي المهمش، والتابع، بمركزه الصهيوني/ الامبريالي. ومن هنا جاء التركيز في وثائق الهيئة على أهمية إعادة إنتاج ونشر لثقافة المقاومة، التي تتصدى ليس لقوى الاحتلال الصهيوني، بل ولكل أشكال التبعية والارتهان، التي تتبعها السلطة تحت دعاوى زائفة ومضللة، تحمل عناوين «التنمية والسلام الاقتصادي». وتتصدى هذه الثقافة لمحاولات تطويع العقل والإرادة تحت مسميات «التطبيع»، التي تنشر سمومها العديد من منظمات «الأنجزة» المشبوهة.

لقد أكدت كل التصريحات والمواقف التي أدلى بها أبرز رموز الهيئة عبر وسائل الإعلام، على الرفض الكامل لسياسة «المفاوضات حياة»، لأن ماجرى طوال الأعوام السابقة، داخل الغرف المغلقة، وعلى طاولة الحوارات خلف جدران الذل والخنوع، بين سلطة الحكم الذاتي المحدود وحكومة العدو الصهيوني، يشير إلى بؤس هذا النهج وعبثيته. ومن هنا جاء التأكيد مراراً على أن هذا الحراك سيناضل من أجل أن ينقل حالة التململ والغليان التي تسود المجتمع الفلسطيني إلى خطة عمل من أجل انبعاث حالة نهوض شاملة. ولهذا أكدت الشخصيات المؤسسة للهيئة على ضرورة إحداث نقلة نوعية في العمل الجماهيري/ المجتمعي، يحقق لأوسع كتلة شعبية فلسطينية، الفعل المباشر لكي تحافظ على حقوقها ومطالبها، ولتتصدى لكل محاولات التراجع والتفريط بتلك الحقوق والمطالب. ولتبني في مواجهة ذلك سياسة ثقافية جديدة، تتمسك بالثوابت: ثوابت الأرض، والوطن، وبأن الشعب العربي الفلسطيني، شعب واحد، موحد في تصديه لقضية واحدة ومحددة، هي الاستعمار الإستيطاني، الإحلالي، الذي تجلى في احتلال أرضه عام 1948، وطرد أهلها، ليتوسع عدوانه واحتلاله، ليطال باقي الأرض الفلسطينية عام 1967. وفي تأكيد على صوابية التوجه، أعاد المؤسسون، تمسكهم بمنظمة التحرير الفلسطينية، الإطار الجبهوي والتمثيلي الكفاحي لشعبنا، المستند على مرجعيته، التي تحددت بالميثاق الوطني بمواده الـ33. ولذلك تميز الخطاب السياسي والإعلامي لرموز الهيئة بالوضوح البارز، حينما أعلن تمسكه بالمقاومة، ودعمه وتأييده لكل أشكالها في مواجهة الاحتلال والغزو، لأن المقاومة بالنسبة للشعب الواقع تحت الاحتلال هي واجب، وليست حقاً فقط. ومن هنا أجاب التحرك بشكل واضح على أية تساؤلات ستطرحها قوى «التشكيك والعداء» له، سواء بعبارات التضليل والتنكيل، أو بالإشارة إلى خلفية بعض الرموز السياسية والتنظيمية. لأن قوى وشرائح «الردة والخراب» في مجتمعنا، أدركت منذ اللحظة الأولى معنى هذا الحراك ومضمونه، من حيث عمله على حشد أوسع قاعدة شعبية حول نُخَبه المُبادِرة، لأنها تعكس كل أطياف وألوان العمل السياسي المقاوم، التي جمعتها، ووحدت رؤيتها، الكتلة الواسعة مما يسمى بالمستقلين- أي غير المنضوين بالفصائل والحركات- والتي شكلت رموزها البارزة، المادة الصمغية التي جمعت هذا الحراك المتنوع والمشتت.

إن أهمية هذا التحرك الجديد، أنه يعمل على إعادة قضية فلسطين إلى الأمة العربية، ولفضاء الأمة الإسلامية، ولكل قوى التحرر العالمية. لأن قضية فلسطين هي قضية العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. فإقامة الكيان الصهيوني على الأرض العربية في فلسطين، استهدف العرب: أمةً، ثروات، تنمية، ونهضة. ولهذا فإن النضال من أجل حرية فلسطين وعودة شعبها، هو نضال من أجل حرية العرب وكرامتهم.

لقد استقبل المفكرون العرب إعلان الهيئة الوطنية، بكتابات مؤيدة وداعمة، فالدكتور عبد الستار قاسم، المحاضر في جامعة النجاح بمدينة نابلس المحتلة، يختتم مقاله المنشور حول الهيئة، قائلاً (لا نتوقع المعجزات من المبادرين، لكن الزخم الشعبي وراءهم، وتأييد قطاعات واسعة من الأمة العربية والإسلامية لهم سيصنع بالتأكيد ما نتطلع إليه). وكذلك فعل الكاتب والمفكر فهمي هويدي في مقاله المنشور مؤخراً وهو يتحدث عن رسالة الحراك في مصر، وفلسطين «ولادة الهيئة» (الحراك يعد بمنزلة شعاع يلوح من بعيد، يتطلب جهداً لكي يتحول إلى ضوء حقيقي قد يلبي بعض أشواقنا. وكونه كذلك لا ينبغي أن يكون مثبطا للهمم، لأن مجرد إطلاق الشعاع يعني أن جهود التيئيس فشلت في تحقيق مرادها، وأن ثمة نبضاً حياً في الأمة يستحق أن نرصده. وإذا لم يمثل ذلك الشعاع دعوة لما هو أفضل، فإنه على الأقل قد يجنبنا ما هو أسوأ وأتعس).