إبراهيم البدراوي - القاهرة إبراهيم البدراوي - القاهرة

شايلوك.. يأتينا من جديد (5)

في عام 1929 بدأت المطالبة بالتمصير، ولكن معركته دامت لأكثر من ثلاثين عاماً بين كر وفر، واستخدمت فيها الرأسمالية اليهودية كل الحيل غير المشروعة لوأد العملية.

كانت مطالب التمصير تقتضيها  تطورات فرضها الحراك الاجتماعي الناتج عن الهجرة من الريف إلى المدن وتوسع الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة، وما يتطلبه ذلك من ضرورة توفير مجالات عمل.

كيف تم  إجهاض التمصير؟

صدر قانون الجنسية في مصر عام 1926، وتبعه عام 1929 مرسوم بقانون بفصل الجنسية المصرية عن الجنسية العثمانية. المفارقة هي أنه بينما ظلت عائلات الرأسمالية اليهودية الكبيرة

بما في ذلك المقيمة في مصر منذ زمن طويل قد احتفظت بجنسياتها الأجنبية (عائلة هراري موزعة بين السويسرية والبريطانية– عائلة موصيري إيطالية– عائلة سوارس فرنسية– عائلة كاسترو إسبانية الأصل وافدة إلى الدولة العثمانية بعد سقوط غرناطة وتحمل الجنسية اليونانية)، فإن اليهود من البرجوازية المتوسطة والصغيرة التابعين للرعوية العثمانية (وقد فقدوها بعد معاهدة سيفر عام 1923) لم يكن من الممكن عودتهم إلى روسيا بعد ثورة أكتوبر 1917. أو حتى اكتساب الجنسية الايطالية بعد وصول موسوليني إلى الحكم. ولذلك فإن أعداداً كبيرة منهم سعت إلى الحصول على الجنسية المصرية وحصلت عليها.

حينما ألغيت الامتيازات الأجنبية عام 1937، وكذا صدور قانون في عام 1947 يقضي بأن تكون نسبة 75% من الوظائف العليا في الشركات ونسبة 90% من العمالة للمصريين، فإن الرأسمالية اليهودية الكبيرة اعتمدت على اليهود المتمصرين للتحايل على القانون. ثم صدر قانون في عام 1949 بفرض سريان الضرائب على الأجانب في مصر حتى ولو كانت ناتجة عن مصادر غير مصرية. وقانون صدر عام 1950بإلزام الشركات المساهمة بأن تقدم اقراراتها لحسابات التشغيل إلى القاهرة وليس إلى الخارج. فقد تحايلت الرأسمالية اليهودية على ذلك عن طريق العضوية المصرية في الشركات اليهودية من النخبة المشار إليها آنفاً لإجهاض هذه القوانين. وتدل هذه التحايلات على أن اليهود  لم يكن ولاءهم لمصر، ويدعم ذلك أن عدد اليهود  كان  63550 يهودياً في عام  1927بينما كان عدد من حصلوا على الجنسية هو 21934 يهودياً فقط نتيجة تطورات استفادوا منها وكانت تحركاتهم تتم وفق مصالحهم فقط. 

ثورة يوليو واستئناف التمصير (المرحلة الأولى):

بعد أقل من شهرين على ثورة يوليو صدر قانون الاصلاح الزراعي الأول (9 سبتمبر 1952). وكان ضمن أهدافه بعد توزيع الأرض على المعدمين من الفلاحين، أن يتجه كبار الملاك السابقين لاستثمار أموال التعويضات في التصنيع. وفي سياق هذا الهدف، ولحفز رأس المال الأجنبي للاستثمار في مصر تم تعديل مواد قانون صادر عام 1947 لتكون نسبة رأس المال المصري 49% في حال عدم تغطية المصريين للحصص المعروضة من الأسهم في غضون شهر واحد، إذ يمكن لأي فرد أو جهة أجنبية الاكتتاب فيها.

غير أن الرأسمالية اليهودية استفادت من هذا القانون، ولكن وفق وجهتها ومصالحها، بالتركيز على قطاعات التجارة والمال، وكذا خدمة اقتصاديات القطن التي شهدت رواجاً بسبب الحرب الكورية. كما اتجهوا بصحبة البرجوازية المصرية وعلى رأسها كبار ملاك الأراضي السابقون إلى عقارات المباني، أي أن معظم أنشطتهم كانت في إطار هادف إلى تحقيق أكبر تدوير لرأس المال وتحقيق أعلى معدل ربح (يتم تصديره إلى الخارج) حيث كانت بنوك: موصيري– زليخة– سوارس– البنك البلجيكي والدولي، تتولى مهمة التحويل إلى الخارج.

كان هذا هو اتجاه الرأسمالية اليهودية خلال الفترة من 1952 إلى 1956. وإلى جانب ذلك اتجهت إلى تدعيم سيطرتها الإدارية في الشركات حتى دون رأس مال. لذلك فإن هذه الجولة من محاولات التمصير لم تحقق نجاحاً. 

بدايات التمصير الحقيقي:

عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، صدر في عام 1957 قانون بوقف نشاطات الوكالات التجارية. وكان اليهود قد حولوا أموالهم عن طريق الشركات والبنوك اليهودية وأودعوها لحسابات هذه الوكالات. وخلال الفترة من نوفمبر 1956 حتى سبتمبر 1957 هاجر حوالي 21000 يهودي من مصر. حيث قاموا بتهريب حوالي 8 ملايين جنيه مصري (وهو مبلغ هائل بمعايير ذاك الزمن) رغم أنه لم يكن مصرحاً بأكثر من 30 جنيه للفرد الواحد.

رداً على العدوان والحصار الاقتصادي قامت الحكومة المصرية بإصدار قانون التمصير، وفرضت الحراسة على بنك سوارس (المندمج مع البنك البلجيكي والدولي) وكذا على بنك زليخة، أهم معاقل تهريب الأموال. كما تمت تصفية رأس المال اليهودي في شركة كوم أمبو المملوكة لعائلات: سوارس– رولو– قطاوي وورثتهم، والذي يبلغ 150000 حصة. وبسبب خلافات بين المدراء المصريين والإدارات اليهودية، استقال «ليون كاسترو» من مجلس إدارة البنك التجاري المصري. كما استقالت «دنيس هراري» مديرة بنك موصيري في وقت متأخر قبل قرارات التأميم بشهر واحد.

التأميم.. الرحيل:

كانت الرأسمالية اليهودية قد قطعت شوطاً كبيراً في تهريب أموالها من مصر حتى عام 1960، حيث استشعر اليهود اتجاه الريح. كان عددهم قد تقلص في ذلك العام  إلى 8561 يهودياً، رغم أن التأميم في المرحلة الأولى (الأوسع) في يوليو عام 1961كان يقضي بتأميم قطاعات بنسبة 100% وفي مرحلة أخرى بوضع حد أعلى للملكية في المنشآت المؤممة في حدود 10000 جنيه، وأباح بيع باقي الأسهم بسعر إقفال آخر يوم تم فيه تعامل بورصة القاهرة. كما أن عملية التأميم اتبعت مبدأ التعويض بإصدار سندات على الحكومة بقيمة ما آل إليها من أسهم بفائدة 4% ولمدة 15عاماً. لكن رحيل اليهود استمر إلى أن وصل عددهم إلى حوالي 1500 في عام 1966، معظمهم من العجزة والنساء والأطفال الذين لا ترغب إسرائيل في استقبالهم، وليس لهم مصالح اقتصادية هناك، أو رأت في وجودهم بمصر مصلحة في استخدامهم كجواسيس كما كشفت عنه أحداث عام 1967 التي أظهرت ولاءهم لإسرائيل وليس لمصر التي آوتهم. وبذلك وصل عددهم إلى قرب عددهم أوائل عصر محمد علي.

(يتبع...)