إبراهيم البدراوي - القاهرة إبراهيم البدراوي - القاهرة

أيها السابحون ضد التيار.. انتهت اللعبة

اثنان وستون عاماً مضت على اغتصاب فلسطين، حوالي نصفها كان الصراع ضد العدو في صدارة المشهد الاقليمي والدولي. وراء ذلك كان حضور حركة تحرر وطني عربية لم تفتر قوة الدفع لديها رغم نكسة 1967.

في أكتوبر 1973 جرى انتاج ميزان قوى جديد لمصلحة العرب لم يتم استثماره حينها.

بدأ السادات، الذي كان أنجز انقلابه اليميني عام 1971 ودخل حرب أكتوبر مكرهاً، بدأ السباحة ضد التيار بزيارته للعدو في نوفمبر 1977 التي أفضت إلى الصلح المشين. وخرجت مصر من معادلة الصراع، وبالتالي من حركة التحرر الوطني العربية والعالمية بشكل حاسم، وصولاً إلى وضعها المزري الراهن. وكانت التداعيات فادحة على المستوى العربي، إذ انتعشت القوى الرجعية العربية رغم صياحها الأجوف، وانطلقت السباحة ضد التيار عربياً بدءاً بمؤتمر مدريد ثم أوسلو ثم وادي عربة. ثم جولات المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي أسفرت عن جعجعة دون طحن. ثم المبادرة العربية، والأخطر هو عمليات التطبيع السري والعلني. واستثمر العدو الذي لم يحترم طوال تاريخه أي قرار دولي أو اتفاق، استثمر ذلك في التوسع والمزيد من التوسع، والإرهاب، وشن الحروب العدوانية، وقمع الفلسطينيين بالقتل والاغتيال اليومي واعتقال الآلاف، وصولاً إلى كارثة إصدار قانون «يهودية الدولة» بكل تداعياته. لقد أصيبت النظم العربية باستثناء سورية أساساً بحالة من فقدان المناعة. 

اختراع أعداء جدد:

كغطاء للكارثة المحدقة تم وبشكل عملي وواقعي استبدال للعدو الأساسي بأعداء جدد. وكانت الفرصة سانحة لهذا الاستبدال عقب نجاح الثورة الايرانية التي أعلنت بشكل عملي وقاطع انحيازها المطلق للشعب الفلسطيني وعداءها المطلق للكيان الغاصب لفلسطين، واستدار السلاح العربي إلى إيران في حرب ضروس دامت سنوات ثمان بدون مبرر. وفي التوقيت عينه عبأت نظمٌ عربية إمكانياتها المالية (السعودية) وأخرى إمكانيات بشرية للعدو الآخروهو الاتحاد السوفييتي في أفغانستان (علماً بأنها لم تحرك ساكناً، بل تدعم الاحتلال الأمريكي حالياً لهذا البلد). ورغم تسليمنا بأن تناقضات ثانوية قد تكون بين بعض البلدان العربية وبين إيران تحديداً، غير أنها كانت قابلة للحل بالحوار وليس بالحرب التي لم يجرؤ أحد من العرب على التلويح بها لنظام الشاه الحليف المطلق للعدو في المنطقة. ولم يتوقف التفسخ العربي بل امتد لغزو الكويت، التي كان يمكن أيضاً حل أي تناقض معها بالحوار السلمي. وتعددت مظاهر التفسخ بالحرب الأهلية في اليمن وقبلها في لبنان والسودان، وحوصرت بلدان عربية، واستعرت الفتن الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية في العديد من البلدان العربية. وتوج ذلك باحتلال العراق، والعدوان على لبنان حيث لقّن حزب الله العدو درساً وألحق به هزيمة لن ينساها، ثم العدوان على غزة الصامدة التي لم يحقق العدو بغيته في تركيعها.

وهكذا تم افتعال وإحلال تناقض رئيسي بين العرب والعرب وبين العرب والمسلمين محل التناقض الرئيسي بين العرب وبين العدو الصهيو– امبريالي. وتم إعطاء العدو الصهيوني الفرصة للتوسع فلسطينياً، بل وأفريقياً وآسيوياً (وعالمياً) على حسابنا... الخ. أي أنه أساساً باستثناء سورية وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وكذا القوى الشعبية على طول الإقليم فقد تحول النظام الرسمي العربي إلى فاعل (سراً أو علناً) في دعم الكيان المحتل لفلسطين ومشروعه الخطر «الشرق الأوسط الجديد». 

اجتثاث العشب.. جز العشب:

يطلق بعض الساسة الأمريكيين مصطلح «اجتثاث العشب» و«جز العشب» ويقصدون بالمصطلح الأول اجتثاث القوى المعادية لهم ، وذلك كاستمرار للنهج الصهيو– أنجلو سكسوني الذي اتبع في أمريكا الشمالية وفي استراليا، وأخيراً في فلسطين. والمقصود بالثاني الحاق أقصى درجة من الضعف بكيان الدولة المحددة وجرها لحظيرة التبعية في حال تيقنهم من عدم قدرتهم على الاجتثاث (كما يأملون بالنسبة لإيران).

وقد حاول الأمريكيون في ذروة قوتهم تحقيق الاجتثاث (كوريا وفيتنام نموذجان) ولكنهم عجزوا. وفي ظروفهم الحالية لا يتجاوز طموحهم «جز العشب». لكن هذا الطموح يصطدم بمقاومة البلدان المستهدفة واتساع رقعة المقاومة والانتصارات المتلاحقة لكثير من البلدان (أمريكا اللاتينية نموذجاً) من ناحية، وحالة الوهن الشديد الناتج عن الأزمة العاتية التي تجتاح النظام الرأسمالي من ناحية أخرى. 

الآن:

بعكس ما تروج له الامبريالية وأبواقها في العالم كله فإن أزمة الرأسمالية تستحكم يوماً بعد يوم. ولا توجد أية آفاق لتجاوزها. إذ امتدت أفقياً ورأسياً في كل المراكز الرأسمالية الرئيسية. ولم يعد متاحاً لها– الآن– سوى تحميل الطبقات العاملة وسائر الكادحين فيها أعباء الأزمة، ممّا أنتج احتداماً هائلاً للصراع الطبقي الذي بدأ بالاضرابات غير المسبوقة في أوربا. أي أن المواجهة قد بدأت، وهي حتمية في الولايات المتحدة  التي طال الجوع الملايين من مواطنيها إلى جانب كل التجليات الاجتماعية للأزمة.

وأدت الحربان في أفغانستان والعراق إلى تفجر الأزمة الكامنة، بما جعل خيار الحرب كوسيلة استخدمتها الرأسمالية مراراً لتخطي أزماتها، خياراً صعباً في ظل الخسائر البشرية والمادية الهائلة، وهو ما يدفع تباعاً بعض البلدان الرأسمالية الهامة إلى الإعلان عن آجال قريبة لسحب قواتها. والنتيجة المستخلصة هي أن الولايات المتحدة وحلف الأطلسي قد هزموا.

هكذا وضعت الأزمة العاتية والهزائم العسكرية كلاً من الكيان الصهيوني وقوى التبعية في إقليمنا العربي والإسلامي في مأزق شديد. لكن الأهم الذي يثير فزع هؤلاء هو ما يحدث في الاقليم من تطورات، أهمها الاصطفاف السوري– الإيراني– التركي ومعهم قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وترحيب هائل من شعوب المنطقة، وهو ما يؤكد أن ميزاناً جديداً للقوى قد تشكل، وأن معادلة الصراع تتغير بشكل كامل.

ولعل زيارة الرئيس محمود أحمدي نجاد تعطي دليلاً على هذا الفزع. وهي الزيارة التي أثارت اهتماماً هائلاً– تأييداً واستنكاراً- يساوي الاهتمام الذي صاحب زيارة السادات للعدو. لكن بشكل معكوس تماماً. إذ كانت الأولى تعلن عن خروج مخز من التحرر الوطني إلى التبعية في حين أن زيارة نجاد تعلن الدخول بقوة وفخر إلى التحرر الوطني.

إن التداعيات الايجابية لهذا الاصطفاف وولوج مرحلة نوعية في معادلة الصراع، سوف تضع الطموح الأمريكي الرامي إلى محاولة ما يسميه «جز العشب»  خياراً صعب التحقيق. كما أنه سيشل إلى حد بعيد  خيار فعالية سلاح «القوة الناعمة» كبديل لاستخدام الحرب. ذلك الخيار المعتمد على الرشاوى للعملاء، والاغتيالات، والحروب السرية الاستخباراتية، وبث الفتن... الخ.

وهو الأمر الذي يطرح بقوة امكانية تحريك «عقدة الماسادا» لدى الكيان الصهيوني فيقدم على عمل عسكري بصرف النظر عن نتائجه، ولو كان بمثابة انتحار جماعي يهودي. 

خياران أمام العرب:

إزاء ما يلاقيه العدو الامبريالي عموماً والأمريكي خصوصاً من هزائم وتراجع وأزمات تضيق أمامه الخيارات، وتصيبه بالارتباك والشلل، وما قد يرتكبه الكيان الصهيوني، وإزاء التطورات الإقليمية الايجابية التي قد تدفع بعض العملاء الصغار في لبنان أو غيره إلى حماقات لن يستفيد منها سوى العدو الصهيو– امبريالي، وإزاء فشل نهج الاستسلام بشكل مطلق وتقدم  وانتصار نهج المقاومة، فإن النظام الرسمي العربي– خصوصاً ما يسمى محور الاعتدال– يواجه مأزقاً لا مثيل له ويضع نفسه أمام خيار من اثنين: إما القفز من القارب الغارق حتماً (واللحاق بخيار نهج الاستسلام) وإما البقاء حيث هم والغرق هو المصير المحتوم. لكن المرجح حتى الآن رغم ضيق مساحة المناورة أمامهم ، أن الطبيعة الطبقية لهذه النظم سوف تحكم خيارهم. فليغرقوا. فهذا أفضل.

لكن خيار القوى الشعبية العربية من الكادحين والوطنيين هو دون شك الخيار الصحيح، أي خيار المقاومة و«اجتثاث العشب» الضار والسام المتطفل على جسد بلداننا وشعوبنا. لكن ذلك يتطلب اليقظة ورص الصفوف لأن العدو يكون غاية في الشراسة في لحظات احتضاره، وأن دفنه لن يتم تلقائياً دون نضال حاسم.

لقد انتهت اللعبة.