السُّلْطة الأٌُكذوبة
حملت الأيام الأخيرة، كمّاً من التصريحات/ المواقف لرموز سلطة المقاطعة في رام الله المحتلة، فاض عن «المحتمل» لدى قطاعات واسعة من أبناء شعبنا وأمتنا، في ظل احتدام «المعركة» حول أحجية تجميد بناء المستعمرات لشهر أو شهرين أو... وكأن جذر القضية أصبح- كما يريد رجال السلطة الأكذوبة «هذا الوصف أطلقه عباس على سلطته»- هو جديد تلك الوحدات السكنية فقط! لقد كان لصاحب ملكية «وثيقة جنيف» المشؤومة، الأسبقية في «النعيق» بمقدمة أسراب البوم، عن «يهودية الدولة أو صينيتها»، كما قال قبل بضعة أيام، شريطة أن تتقدم الولايات المتحدة، بخارطة لحدود الدولة الفلسطينية العتيدة، التي لم يبق لها سوى قطع من الأرض، تتناثر على بضعة كيلومترات. والواضح في تلك التصريحات التي جاءت على لسان ما يسمى «أمين سر اللجنة التنفيذية» لمنظمةٍ مختطفة يتم استحضارها في لقاءات التنازلات، لتمهر باسمها «زوراً وبهتاناً» سندات البيع، ممن لا يملك، بأنها- التصريحات- كانت المقدمة الضرورية لتلك المواقف التي تحدث بها رئيس سلطة تلك المقاطعة للقناة الأولى في تلفزيون العدو يوم الأحد المنصرم.
جاءت تلك المواقف منسجمة مع سياسات الرجل التاريخية. إذ لم تكن مفاجئة للعديدين ممن تابعوا مسيرته خلال عدة عقود، وراقبوا عن كثب سياسات وبرامج وخطط السلطة وحكومتها الفياضية. وإذا كانت الأوصاف التي أطلقها على انتفاضة شعبنا المتجددة، تتماهى مع ما أطلقه «أنور السادات» على انتفاضة شعب مصر العظيم، فإن وصف سلاح المقاومة بـ«الحقير والعبثي» جاء على خلفية الموقف من المواجهة مع المحتل. لأن الثابت غير المتحول في سياسات ذلك الرجل، كان وسيبقى: التنازل ثم التنازل، عبر الاستجابة لطلبات العدو، والذي يتخفى تحت كلمة التفاوض.
لقد قدمت المقابلة الأخيرة التي أجراها عباس في تلفزيون العدو، الرجل كما هو، على حقيقته التي لا تقبل التأويل أو الاجتهاد. تحدث عن دولة في أراضي الـ67-كما يتوهم- مسقطاً حق وواجب عودة اللاجئين، مؤكداً على أن هذا الحل سيؤدي إلى «إنهاء الصراع وإنهاء المطالب التاريخية». وهذا يعني باختصار شديد، التخلي عن حق الشعب العربي الفلسطيني بوطنه، والتنكر للرواية الوطنية الفلسطينية عن الصراع مع الحركة الصهيونية، الإحتلالية، الإجلائية، وتبني رواية تلك الحركة الغازية، بحقها بـ«أرض الميعاد». إضافة لما ينتظر عرب الوطن داخل الأراضي المحتلة منذ عام 48 من قمع واضطهادٍ كمقدمة للترحيل.
لم يكن هذا السقوط المدوي وليد لحظته التاريخية، بل كان نتاج سياسات منهجية، عملت سلطة الحكم الذاتي المحدود، وقوى سياسية واجتماعية فاسدة ومفسدة، مدعومة من قوى إقليمية ودولية، على ترسيخها داخل بعض مؤسسات السلطة ومنظمات المجتمع المدني، العاملة على الترويج لمفاهيم «التعايش مع الجار» و«السلام الاقتصادي» المزعوم. لكن سياسة التنسيق الأمني كانت هي الصيغة الأبرز التي حكمت طبيعة العلاقة بين السلطة وحكومة العدو. وهذا ما يتضح من التقرير المنشور في جريدة الدستور الأردنية يوم الاثنين 18/10، نقلاً عن مكتب منسق أعمال حكومة العدو في الضفة الغربية المحتلة «الإدارة المدنية». يقول تقرير تلك الإدارة (إن أجهزة الاحتلال الأمنية والعسكرية نفذت «1424» عملية مشتركة مع قوات الأمن الفلسطينية في الضفة المحتلة خلال النصف الأول من العام الحالي، بمعدل ثماني عمليات يومياً، أو عملية واحدة كل ثلاث ساعات، وهذا الرقم يزيد عن ضعف إجمالي العمليات المشتركة التي نفذها الجانبان على امتداد عام 2009. ومن أجل التوصل إلى تحقيق هذه العمليات، أجرى ضباط العدو أكثر من 303 اجتماعات مع نظرائهم «أدواتهم» المحلية في أجهزة الأمن الفلسطينية، أي بمعدل اجتماعين تقريباً في اليوم الواحد. وللتذكير ببعض مواقف محمود عباس «الأمنية»، نورد ما تحدث به في لقائه يوم الثلاثاء 21/09/2010 مع قادة خمسين منظمة يهودية أميركية من أن (أمن «إسرائيل» هو أمننا).
أمام هذه المعلومات، تتكشف وظيفة ودور هذه السلطة، الرهينة للاحتلال، والذي يظهر للعيان في حملات الاعتقال المستمرة ضد المقاومين، وفي نقل المعلومات عن المطاردين، وفي التخريب المبرمج للنسيج المجتمعي، والعمل على تدمير ثقافته الوطنية. وخير دليل على ذلك، سلسلة «انجازات!»قوات أمن السلطة في كشفها للعديد من الخلايا المسلحة للعديد من الكتائب والسرايا المقاتلة، وإعطاء المعلومات الدقيقة لقوات العدو، كما حصل في مخيم عين الماء قرب نابلس والخليل وطولكرم وجنين. واستناداً على حجم ما تقدمه السلطة من خدمات في هذا المجال لحكومة العدو، تفرغت الأخيرة لتدير حرباً من نوع آخر ضد شعبنا داخل الوطن المحتل منذ عام 48. تقول «حنين الزعبي» القيادية في حزب التجمع الوطني الديمقراطي في حديث صحفي لها نشرته مؤخراً صحيفة «الحياة» الصادرة في لندن (إن حرب «إسرائيل» على عرب 48 تصاعدت بفعل اطمئنان «إسرائيل» لأمنها وأمن احتلالها، لنجاحها في معالجة هاجسها الأمني بفعل المفاوضات المباشرة وجدار الفصل وحصار غزة والتنسيق الأمني في الضفة).
في ظل هذا العري الجدي لسلطة رام الله المحتلة، تتعزز لدى الوطنيين الفلسطينيين والعرب حقيقة ساطعة، إذ أكدت هذه السلطة مجدداً على تفريطها بالحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف، لأن وطنية أية سلطة أو جماعة أو منظمة أو تجمع، تتحدد في دفاعها وحمايتها لتلك الحقوق. فعروبة فلسطين التاريخية، وحرية شعبها، ومقاومة الغزاة على أرض الوطن، هي مقياس درجة الالتزام الوطني. وعلى هذه الأسس الثابتة تبنى الجبهات الوطنية، وتتوطد أشكال التنسيق بين مختلف القوى السياسية والمجتمعية. لكن اللافت لنظر المراقبين، كان طبيعة ردود الفعل الفلسطينية والعربية، الباهتة والخجولة، والتي لا تتناسب مع كارثة المواقف المعلنة في تلك المقابلة التلفزيونية، خاصة ما يتعلق بـ«إنهاء الصراع وإنهاء المطالب التاريخية»، لأن هذه المطالب مرتبطة بحق أكثر من عشرة ملايين مواطن فلسطيني، ومئات الملايين من المواطنين العرب في أرض فلسطين التاريخية.
لقد وضعت هذه السياسات المتعاقبة لسلطة رام الله المحتلة، الحالة الشعبية أمام استحقاقات كبيرة، تتطلب من القوى السياسية والمجتمعية المتمسكة بالثوابت، لفظاً وعملاً، تطوير أشكال نضالاتها المتنوعة من أجل إعادة إحياء الدور الكفاحي لشعبنا وأمتنا في مواجهة أعدائه، كشرط لازم وضروري لاستكمال مهمات المشروع التحرري الوطني.