استفتاء في زمن المرشد

يثبت الواقع يوماً بعد يوم، أن النظام السياسي لا يمكن أن يسقط في ليلة واحدة، و أن إسقاط الرئيس لايعني إسقاط النظام .

إن أحد أهم أوجه النظام السياسي المصري يُكثّف في الدستور بمواده المختلفة، حيث يشكل الدستور الشكل القانوني للعلاقة بين الأفراد أنفسهم، والعلاقة بين السلطات ومستوى الفصل بينها. والأهم من هذا وذاك هو شكل توزيع الثروة الاجتماعية بين الطبقات المختلفة المكونة للمجتمع المصري. وهنا يكمن جوهر الصراع، فالسلطة الحالية التي تدعى الثورية وتدعي أنها قد أنهت النظام القديم -والحقيقة أنها تنثر الرماد في العيون- لم تصل إلى السلطة إلا بصفقة مع أركان النظام القديم بالداخل و بالتحالف مع القوى الرجعية العربية والإمبريالية العالمية. 

لاجديد

 لا أدل على ذلك إلا سلسلة الإجراءات التي قام بها الحكام الجدد، فمشروع الإعلان الدستوري المكمل الذي يعد مشروعاً للدكتاتورية المباشرة والذي يسمح للرئيس فرض أحكام بدون المرور على باقي السلطات، والهدف منه هو فرض قوانين وتشريعات تخدم عملياً        مشروعاًُ معيناً. والمشروع واضح وهو الليبرالية الاقتصادية الذي قدمها الإخوان المسلمون ببرنامجهم الانتخابي، أي حكم ودكتاتورية الأغنياء، ورغم فشل الإعلان الدستوري كخطوة على طريق تكريس مشروع الإخوان، إلا أن مشروع الليبرالية لم يفشل بعد .

على  المسار نفسه جاء الدستور المطروح للاستفتاء كمقدمة لاستمرارالنظام القديم وإعادة إنتاجه بأشكال مختلفة. فالمكون الوحيد بعد انسحاب أغلب القوى السياسية من اللجنة التأسيسية للدستور هم الأخوان المسلمون. حيث جاءت صياغتهم على مقاس البرجوازية المصرية، المرتبطة فعلياً مع المراكز المالية العالمية، وهو ماتجلى فاقعاً بالمواد المتعلقة بالحد الأدنى للأجور والرعاية الصحية. ناهيك عن العديد من المواد التي تفضي لإعادة الدكتاتورية من توسيع صلاحيات الرئيس إلى مراقبة أجهزة الإعلام بطرق غير ديمقراطية.

يتجاهل الإخوان حتى اللحظة الغضب الشعبي العارم، حيث لايكترثون بالاشتباكات اليومية الحاصلة، ولا حتى بنزول ثلاثة ملايين مصري إلى شوارع مصر في القاهرة والاسكندرية وعدة مدن مصرية تعبيراً عن رفضهم لمشروع الدستور واستشعاراً منهم لخطورة هذا المشروع وإدراكهم أن النظام يعيد إنتاج نفسه.

كما يتجاهل الإخوان باقي القوى السياسية المصرية التي شكلت جبهة الإنقاذ الوطني، والمكونة من مجموعة من أحزاب مختلفة المشارب السياسية وأعلنت جميعها رفض للدستور.

النزاهة الغائبة

حقق الدستور في الجولة الأولى وفقاً للنتائج غير الرسمية قبولاً بنسبة 56% ، وهو ما يدلل بشكل فاقع على حالة عدم الإجماع الوطني. فقبول الدستور من الناحية الشكلية يتطلب على الأقل نسباً أعلى من ذلك بكثير، فهذه النسبة لا يمكن أن تكون محط إجماع وطني حتى لو أنها تمنح الغالبية للموافقين على الدستور.

أما المرحلة الثانية فقد شهدت انتهاكات صارخة مما دفع  رئاسة الجمهورية  إلى الإعلان عن استقالة  المستشار محمود مكي نائب رئيس الجمهورية، قبيل ساعات من بدء فرز أصوات الناخبين في الاستفتاء. وكانت منظمات حقوقية مصرية عدة، رصدت انتهاكات واسعة، خلال التصويت على الاستفتاء، أهمها:  منع أقباط من الوصول إلى مقار لجانهم الانتخابية، في محافظات عدة في الوجهين البحري والقبلي، والتصويت الجماعي، وتوجيه الناخبين للتصويت بـ»نعم» بحسب غرفة عمليات «التحالف المصري».

ورصدت المنظمات تزايد حالة الانتهاكات خلال التصويت، خصوصاً في محافظتي الوجه القبلي «قنا والمنيا» بمنع مواطنين والتضييق عليهم بحيث تعذّر وصول الكثيرين منهم إلى صندوق الاقتراع، عبر إغلاق بعض اللجان عدة ساعات أمام أقباط.

وبينما تحدَّثت تقارير عن تسويد بطاقات واشتباكات متفرقة بين مؤيدين ومعارضين للدستور الجديد، قرب لجان الانتخاب، أشارت مصادر إلى أن ارتفاع نسب الانتهاكات في المرحلة الثانية قد تضع الدستور في مهب الريح، حيث قالت غرفة عمليات «نادي القضاة» المصري إنها تلقت 52 شكوى حول تأخر فتح لجان ومنع مراقبين من دخول لجان التصويت.

وبينما فسر البعض استقالة نائب الرئيس، في هذا التوقيت الحرج، بأنها استباق لنتيجة الاستفتاء على الدستور، الذي لا ينص على وجود منصب «نائب» للرئيس، اعتبر آخرون أن إعلان الاستقالة ، هو إعلان مسبق لفوز «نعم» للدستور، على الرغم من أن الاستقالة جاءت قبيل ساعات من انتهاء التصويت في المرحلة الثانية، في ظل الحديث المتزايد عن الانتهاكات التي شهدها التصويت في مرحلتيه.

حسم مكي هذه التأويلات ووجه صفعة جديدة لمؤسسة الرئاسة، فتحدث  عن حيثيات الاستقالة، بحسب بيانٍ أصدره، لافتاً إلى أنه يرفض حالة الاستقطاب الموجودة في المجتمع بعد الإعلان الدستوري، الذي أصدره الرئيس مؤخراً، مشيراً إلى أنه تقدم بالاستقالة في 7 نوفمبر تشرين الثاني، اعتراضاً على الإعلان الدستوري، لكنها رُفضت، وجاءت إستقالة مكي بعد أسابيع من استقالة مجموعة من مستشاري الرئيس، الممثلين للتيار الوطني .

ربما ستحقق القوى الرجعية انتصاراً في هذه المعركة، لكنها لن تحسمها والواقع و الضروة ستفرض بالنهاية برنامجاً ودستوراً ثورياً على مقياس الحراك الشعبي المصري وتطلعات الشعب المصري العظيم.