الثورة الآن...

ورث العراق تركة ثقيلة من مخلفات الاحتلال الأمريكي، فرغم أن العراق يحوز على ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، إلا أنه موبوء بكل الأمراض المستعصية، من البطالة التي تبلغ 16%، إلى الفقر الذي يصل إلى 25% وفق أقل التقديرات، وصولاً إلى أنه يوصف حالياً بأنه أكثر البلدان فساداً في العالم.

 

خلّف الاحتلال أيضاً نظاماً سياسياً مبنياً على التحاصص الطائفي، كما ترك خلفه أكبر سفارة أمريكية في العالم سواء من حيث عدد الدبلوماسيين ( أكثر من 1000 «موظف» و380 أسرة ملحقة)، أو من حيث مساحة الأرض المخصصة للسفارة (42 هكتاراً، أي ما يعادل 80 ملعب كرة قدم، وهي أكبر من مساحة الفاتيكان وأكبر من مجمع الأمم المتحدة في نيويورك) كلف تشييد هذا المجمع (7،1 ) مليار دولار، دفعها الشعب العراقي من أمواله !.

لن يستهجن أحدٌ ما لماذا ينتفض أهل العراق، فيكفي أن نضيف أن انقطاع الكهرباء كان أحد الأسباب الرئيسية لانتفاضة البصرة، الكهرباء التي تتغذى بها منازل العراقيين لأربع ساعات يومياً فقط.

لامجال للقول أن: « لا أساس موضوعي لحراك شعبي تغييري في العراق»، على العكس تماماً فالعراق يملك العديد من الشروط لإنجاز ثورة هامة قد تغير خريطة المنطقة.

تنطبق على العراق العديد من شروط الثورات الكلاسيكية، فالظرف التاريخي الحالي هو ظرف ثوري بامتياز طالما أن المركز الامبريالي كمركز مهيمن ومعاد للثورات والممثل بالغرب الأوروبي والامريكي، هو في حالة ضعف مزمن. يشهد الظرف الإقليمي أيضاً العديد من التغيرات السريعة والتي وإن اختلفنا على تقييمها، إلا أننا ندرك أنها جزء ما من تغيرات ثورية ضرورية وممكنة.

تترافق الظروف الموضوعية الدولية مع جملة من العوامل الذاتية في الساحة العراقية يجب التركيز عليها:

1-إن النظام السياسي العراقي الحالي هو مجموعة مكونة من فاسدين وناهبين كبار ووجوه طائفية، لاتملك حتى اللحظة أي مشروع سياسي جدي، عدا أنها كانت مجموعات توافقية بين الاحتلال الأمريكي والقوى الإقليمية في المنطقة، ومع تراجع الولايات المتحدة ستنشأ توازنات جديدة وبالتالي قوى جديدة .

2-جهاز الدولة العراقي المكون من المؤسسات المتهاوية، وقوات أمنية وقوات عسكرية، وهي مازالت غير قادرة على بسط نفوذها في كافة أرجاء العراق، حيث لايزال أهله يعتمدون في أمنهم على قوات محلية أكثر من القوات الاتحادية وهي في حالات كثيرة غير متوافقة كلياً بسبب التقسيمات الطائفية.

3-رفض شعبي واسع لسياسات حكومة المالكي الحالية، سواء تلك التي تهدد بالقمع ضد المتظاهرين تارة وبتجاهل ضرورات الحل تارة أخرى، ناهيك عن الأخطاء المتراكمة في عملية التنمية وبناء الدولة، حيث يرى العديد من القوى في حكومة المالكي جزءاً أساسياً من الأزمة.

إن العوامل التي سردناها تهيئ من كل بد إلى حالة ثورية، لن تقف على أغلب التقديرات حتى تغيير كل النظام، فالعراقيون سئموا الطائفية وكل مفرزات الاحتلال.

يستشعر بعض الساسة العراقيين الخطر الداهم، فجاءت بعض الدعوات السريعة للحلول،  كحديث جبار الكناني النائب عن ائتلاف «دولة القانون» (الذي يرأسه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي) إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، معتبراً  ذلك «مفتاح الحل» لإنقاذ العملية السياسية في البلاد. ردة الفعل هذه جاءت  بعد مظاهرات يوم الجمعة التي شارك فيها الآلالف. ففي الرمادي مركز محافظة الأنبار غرب العراق، خرج نحو مئتي ألف متظاهر إلى شوارع المدينة، فيما منعت قوات الأمن دخول أجهزة البثّ المباشر في محاولة للتعتيم إعلامياً على هذه المظاهرات. ورفع المتظاهرون شعارات ركزت على إطلاق سراح السجناء والتنديد بالسياسة التي تنتهجها الحكومة العراقية في إدارة البلاد.  وفي سامراء أيضاً حيث سميت الجمعة بجمعة «العزة والكرامة»،  وفي الموصل خرجت حشود كبيرة من المتظاهرين للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، ورُفعت لافتات تطالب بإخراج قوات الشرطة الاتحادية من المدينة على أن تحل محلها شرطة المدينة.  كما أعلن مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري يوم الجمعة عن دعمه لحق الشعب في التظاهر السلمي، وذلك في مؤتمر صحفي له عقد أثناء زيارته لكنيسة سيدة النجاة بوسط العاصمة العراقية بغداد.

وقال الصدر في المؤتمر: «نحن مع حقوق الشعب في التظاهر السلمي المدني على أن لا يكون مسيساً، او يحمل صوراً وأعلاماً وشعارات مناوئة للعراق وشعبه»، وبعد زيارته للكنيسة المذكورة شارك الصدر في صلاة موحدة أُقيمت في جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني وسط بغداد.

من جانبه دعا إياد علاوي زعيم «القائمة العراقية» في حديث متلفز يوم الجمعة 4 يناير/كانون الثاني، دعا نوري المالكي إلى تقديم الاستقالة.

تأتي هذه الدعوات لتقابل أحاديث المالكي عن تدخلات تركية لتقسيم العراق ( دون أن ننفي طبعاً وجود تدخلات كهذه) كما تحدث القائد العام للقوات المسلحة العراقية مساء الخميس في بيان له عن أن: « الأجهزة الأمنية علمت بوجود مجموعات إرهابية مسلحة تخطط للدخول إلى ساحة تظاهرة الفلوجة والأنبار لتقوم بأعمال إرهابية مسلحة ضد المتظاهرين».

إن الدعوات المناهضة للحكومة  والادعاءات الحكومية المقابلة على مايبدو، لم ترتق لمستوى الأزمة العراقية، فالأزمة الحالية تعبر عن أزمة النظام العراقي المستمرة، وهي أزمة مركبة من مشكلتين أساسيتين:

-تركة الاحتلال الأمريكي من واقع سياسي واقتصادي واجتماعي.

-أزمة الحكم العراقي والدولة الحالية، التي اتسمت بالتحاصص الطائفي حيناً وبالإقصاء حينا آخر.

إن تداخل كلتا المشكلتين يجعل كل القوى السياسية العراقية الحالية وأساليب عملها موضع شك حول إمكانية هذه القوى على إنجاز حل تقدمي للعراق. فهل تستطيع هذه القوى تجاوز هاتين المشكلتين للوصول إلى الجرأة السياسية لطرح عقد اجتماعي جديد، من دستور وطني غير طائفي وتقسيمات إدارية غير فيدرالية تراعي مكونات الجميع في إطار وحدة وسيادة العراق ؟ وهل ممكن الاحتكام  لصندوق اقتراع يغير هكيلية البرلمان والحكومة والرئاسة من أساس طائفي ومناطقي إلى أساس عراقي خالص؟ 

باعتقادنا إن الثورة الآن فبالأمس كنا مبكرين  وغداً قد نكون متأخرين.