السوريون وكسر الحلقة المفرغة..
بين تاريخ كتابة هذه المادة ونشرها يكون قد مرّ يوم الجمعة 15 نيسان مع ما بات يعنيه على ألسنة عموم المواطنين السوريين، كلٍ من موقعه ومنظوره.
في كل الأحوال، أظهرت أحداث وتفاعلات يوم الجمعة 8 نيسان 2011 أن هناك أطرافاً داخلية وخارجية من مشارب متعارضة التقت مصالحها منطقياً فيما يبدو على إدخال السوريين في حلقة مفرغة لوضعهم أمام ثنائية وهمية جديدة: إما الحرب الطائفية والتخريب وانتشار العصابات المسلحة والقتل بالرصاص في الشوارع وفقدان الأمن والأمان- وهي الحالة المقيتة المرفوضة شعبياً- وإما عودة القبضة الأمنية المشددة لاستعادة ضبط الأمور، بما يعنيه ذلك من تأجيل كل ما هو مطلوب شعبياً من مشاريع الإصلاح الجدي والجذري والسريع والملموس، بسبب الضرورات الأمنية..!
لكن السواد الأعظم من السوريين لا يريدون حقاً الفتنة والاقتتال الأهلي وتخريب المنشآت العامة والخاصة والقتل في الشوارع وانتشار الخوف في نفوسهم ونفوس أطفالهم وفقدان ما تمتاز به بلادهم من أمن وأمان..
المفارقة أنه بالمقدار ذاته لا يريد هذا السواد الأعظم من السوريين عودة القبضة الأمنية المشددة، واستمرار التضييق على الحريات العامة، مثلما لا يريدون استمرار فقرهم وإفقارهم وبطالتهم واستمرار الاستقواء عليهم بأصحاب النفوذ وأتباعهم، ولايريدون استمرار تفاصيل حياتهم اليومية من رشوة وواسطات ومحسوبية ونهب وفساد، ولاسيما الكبير منه.. أي جملة المطالب التي تم الإقرار بمشروعيتها وبحق التظاهر السلمي تعبيراً عنها، بوصفها تعبيراً عن واقع الصراع الاجتماعي الطبقي في سورية أصلاً، لا الطائفي أو العشائري والقبائلي..
في الأسبوع الثاني للاضطرابات قالت القيادة السياسية ما معناه أن حسم المسألة سيكون في المجتمع، وعليه أن يتولى هذا الموضوع كيلا تتهم الدولة بالبطش، (وبناء عليه تم تشكيل وتسليح ما سمي باللجان الشعبية في الأحياء بما يعنيه ذلك من تشويش بخصوص إمكانية تمييز عنصر الأمن عن عضو اللجنة الشعبية عن عضو العصابات المسلحة عن المواطن العادي).
في الأسبوع الرابع وبعد توسع دائرة الاضطرابات والفوضى عادت الدولة، عبر بيان وزارة الداخلية، لتؤكد أنها ستضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه التلاعب بأمن الوطن والمواطن. وإن هذا صحيح جزئياً ويدلل مجدداً على أهمية دور الدولة أمنياً وقت الأزمات، ولكنه تحول إلى «تيمة» يكررها إعلامياً عدد كبير من المواطنين مطالبين بضرورة اتخاذ كل الوسائل لاستعادة الأمن أولاً، ولو على حساب الإصلاحات وتوسيع الحريات الديمقراطية، وكأن هذه الأخيرة أصبحت «مسبة» كون الفوضويين في الداخل المرتبطين بالخارج، أو أصحاب ثارات الدم مع بعض أجهزة وعناصر الدولة، يتلطون خلفها.
لكن، وفي ظل الاضطراب والقلق والتحول والفرز الجاري في البلاد هل تنحصر المسألة في الحل الأمني، على أهميته، مجدداً؟
إن الحل الأمني ينبغي أن يكون جزءاً مكملاً لسلة حلول متكاملة، فيها السياسي والاقتصادي الاجتماعي والديمقراطي المنسجم في مطالب التغيير التي يبتغيها المواطن السوري العادي، والتي تم الإعلان عن الاستجابة لعدد لا بأس منها من خلال جملة القرارات والمراسيم الصادرة حتى الآن بهذا الخصوص. وإن بدء تنفيذ عناصر هذه السلة، وبدء تحولها إلى واقع ملموس لذاك السواد الأعظم من السوريين هو ما سيوسع فعلياً من قاعدة التأييد الشعبي لها من جهة، ومن جهة ثانية لاستمرار وحماية الخط السياسي الإقليمي الذي تلعبه سورية والذي لا يقل أهمية وتقديراً لدى عموم السوريين، ويستهدفه في الوقت ذاته كل المتضررين منه، داخلياً وإقليمياً ودولياً..
إن الفوضى وإطلاق الرصاص في الشوارع، أياً كان مصدره، وسقوط الشهداء تباعاً من أبناء الشعب السوري، مدنيين وضباط وعناصر في الجيش والأمن والشرطة، وانغلاق أو إغلاق مدن بكاملها ضمن منطق الفعل ورد الفعل، مع ما يقابل هذه الفوضى من حلول أمنية، من شأنهما أن يضغطا على أصحاب برامج الإصلاح في صفوف النظام، وعلى أصحاب مطالب الإصلاح في صفوف الشعب، وذلك في الوقت الذي تتربص به قوى العدوان في الخارج بسورية شراً، وتلويحاً بعقوبات دولية تستحضر النموذج الليبي، أو تستحضر النموذج العراقي بعد الغزو الأمريكي، ولكن على القياس السوري، أي تفكيك كل من المجتمع وجهاز الدولة من خلال الفتنة الطائفية، بما يبتعد في كل الأحوال عن مطالب الشعب، بل لإسقاط الدور السوري في المعادلات الإقليمية بما تمثله رسمياً من تعبير عن الإرادة الشعبية الداعمة لمنطق المقاومة في وجه المشروع الأمريكي الصهيوني..
فهل يشير هذا الضغط وهذا الدخول في الحلقة المفرغة إلى وجود «حالة ممانعة» داخل المجتمع وجهاز الدولة في وجه أي تغيير جدي في سورية نحو الأفضل حسبما يطلبه الشعب؟
نعم، فالفوضويون المرتبطون أو الملتحقون بهم، ومن أصبحوا عمياناً طلاب ثأر، غير معنيين أصلاً بأي أفضل أو أي إصلاح، وهؤلاء تتقاطع مصالحهم مع أولئك المتضررين في جهاز الدولة وتخومه الاجتماعية من نتائج ومفاعيل كل حزمة الإصلاح المطلوبة أو المعلن عنها، من إصدار قانوني الأحزاب والمطبوعات، وإلغاء قانون الطوارئ ومحاكم أمن الدولة، ووقف الاعتقال التعسفي، وتعديل الدستور، وضمان حق التظاهر، ومنح الجنسية للمحرومين منها من الأكراد السوريين، إلى مكافحة الفساد ووقف الهدر ونهب المال العام، ويتخوفون أكثر من أن تجد الحكومة المرتقبة نفسها مضطرة لاعتماد سياسة اقتصادية اجتماعية الطابع غير ليبرالية تحقق مصالح غالبية السوريين.
وعلى سبيل المثال والمقارنة، عندما كان رأي الشارع مغيباً خلال السنوات الماضية، وكان الباب مفتوحاً أمام تغوّل ما كنا نسميه «الفريق الاقتصادي» بما يمثله من غطاء لكل أصحاب المصالح الليبرالية الضيقة، كانت هناك ممانعة جدية داخل المجتمع وجهاز الدولة لبيع وتصفية القطاع العام بالكامل، نجحت في الإبقاء على أجزاء منه، دون أن تطاله عمليات البيع والخصخصة..
الآن، ومع بروز التطورات الاجتماعية الجديدة في سورية علينا أن نتخيل حجم وشكل وتجلي وأدوات «العرقلة» القائمة منطقياً في وجه اعتماد أي سياسات إصلاحية تخدم الناس حقاً، ولاسيما مع عودة الناس للشارع (والحديث هنا عن الشق السلمي من هذه العودة)، بما يعنيه ذلك ضمناً من تحدّ لنمط تاريخي قائم على عدم اعتياد الدولة وأجهزتها على التعامل مع حالات كهذه..
إن الخروج من الوضع الراهن الذي بات مفروضاً على البلاد يعني بالدرجة الأولى تبديد كل الثنائيات الوهمية، بما فيها تبديد حالات التشكيك وانعدام الثقة لدى المجتمع ولاسيما بخصوص المشهد الإعلامي. فبغض النظر عن أولئك غير المتابعين أصلاً للإعلام السوري والمنتقدين له بآن معاً، هناك قسم لو حلف له هذا الإعلام أغلظ الأيمان لكذبّه في موقف مسبق، في حين أن حالة التعارض الإعلامي كلياً، وليس من باب التكامل بين أداءين إعلاميين داخلي وخارجي، تترك عموم المتلقين في «حالة تشويش وإنكار كلي» تجاه إحدى روايتين لا يعرفون من يصدقون منهما، رواية إعلام في الخارج همه الأوحد إحداث البلبلة في الداخل السوري، ورواية إعلام في الداخل يكتفي بسرد حقائق ووقائع لا تغطي المشهد كله، رغم أنه يبذل جهوداً حثيثة وغير مسبوقة بالنسبة لبنيته لكشف الشق المتعلق بتآمر الخارج وتواطؤ بعض الداخل، غير أنه في الحالة الملموسة لا يتطرق لضحايا الأهالي ومصابيهم ومعتقليهم، تماماً مثلما لا يعرض كل ما لديه مثلاً حول التمثيل بجثث شهداء الأمن والشرطة والجيش.
وإن هذا الخروج يعني أيضاً في نهاية المطاف التركيز على تنصيع الطابع الطبقي للصراع داخل سورية، وإعادة الفرز والاصطفاف داخل المجتمع والدولة والنظام على حد سواء، على هذا الأساس فقط. وهذا يعني أن الجادين بخصوص مشاريع الإصلاح داخل الدولة والنظام هم من يناط بهم، كخيار وحيد آمن نسبياً، قيادة «ثورة» اجتماعية اقتصادية ديمقراطية شاملة، تبدأ من صفوف النظام، استيعاباً للمتغيرات وتماهياً مع مطالب غالبية السوريين، بغية خلق استقرار فعلي من نوع جديد في البلاد، دون أن يحصر هؤلاء الجادون أنفسهم في التعاطي مع الأعداد القليلة المتشنجة من السوريين، أينما وجدت، وليكن بعدها «الضرب بيد من حديد» على كل الفوضويين، وكل المندسين في المجتمع وجهاز الدولة، وعلى كبار الفاسدين والنهابين والمتلاعبين بالأمن الوطني والاجتماعي والاقتصادي والغذائي والمائي، الخ..
من دون ذلك ستبرز كل الخيارات غير الآمنة كلياً، كون كل الحلول المجتزأة هي في الواقع مؤقتة، بل من شأنها زيادة تمهيد الأرضية لتحولات واضطرابات تدفع الأمور إلى كيمياء انفجار ضمن الخصوصية السورية تطويحاً بكل شيء رائع وإيجابي في البلاد، داخل المجتمع والدولة، ومرة أخرى خلافاً لإرادة ورغبة القوى النظيفة فيهما.
الأربعاء 13/4/2011
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.