كلمة السر.. لحظة الحقيقة
الرسالة التي وجهها مبارك عبر «قناة العربية» السعودية، كانت هي كلمة السر لفتح الباب أمام تحرك كبير للقوى المضادة للثورة. لكن الكلمة ضلت طريقها، وفتحت أبواباً أخرى هي أبواب السجون لأسرة مبارك.
يبدو أن الرئيس المخلوع لم يكن يصدق حتى آخر لحظة أن ثورة حقيقية لاسقاط نظامه قد حدثت في مصر، وأن أولى خطوات هذه الثورة كانت خلعه من سدة الرئاسة، فوجه خطابه المتعالي بما يحمله من ادعاءات فارغة ووعيد.
خطط وأساليب:
كان غضب قوى الفعل الثوري عارماً نتيجة البطء الشديد في اجراءات تقديم مبارك وأسرته وأعمدة حكمه للمحاكمة، خصوصاً وأن القوى المضادة للثورة لا تزال تعشش في مفاصل النظام الذي لم يسقط بعد.
بعد هزيمة قوات أمن وزارة الداخلية وانسحابها، ونزول الجيش وإعلان انحيازه للثورة، لم يعد أمام النظام القديم من سبيل سوى إثارة الفوضى، اعتماداً على بلطجية حزبه وجهاز مباحث أمن الدولة، خصوصاً بعد حل مجلسي الشعب والشورى المزورين، وبالتالي عدم وجود قاعدة جماهيرية– سياسية منظمة. وجرب الأمر مراراً منذ أيام الثورة الأولى دون أن يحقق نتائج حاسمة.
مع اقتراب لحظة الحقيقة التي تمثلت في بدء التحقيقات مع الدائرة العليا الضيقة القريبة من مبارك، وأهم رموزها صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى وأمين عام حزب مبارك، وفتحي سرور رئيس مجلس الشعب، وزكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية تمهيدا لمحاكمتهم وهو ما يعني الاقتراب من لحظة التحقيق ومحاكمة مبارك وأسرته، بدأ التحرك.
أحد اتجاهات التحرك كان استهداف إحداث فتنة طائفية واسعة بعد أن اختفى مناخ الفتنة في أوج الثورة، وذلك بما قامت به مجموعة من السلفيين (الوهابيين). وهذه الجماعات السلفية موالية تماماً لجهاز مباحث أمن الدولة المنحل الذي كان حاضناً لها. وذلك بأن قامت مجموعة منهم بقطع أذن مواطن مسيحي لإثبات وجودهم في الشارع، رغم أنهم لم يشاركوا في الفعل الثوري، ولإحداث فتنة عارمة في البلاد. وتزامن ذلك مع ظهورهم المكثف في ميدان التحرير جنباً إلى جنب مع الاخوان المسلمين، الذين تأخرت مشاركتهم بدورهم في الثورة (كعادتهم) إلى ما بعد الجمعة الدامية في 28 يناير.
روجت قنوات التلفزيون المحلية والعربية والأجنبية للتيار الإسلامي بجناحيه الإخواني والسلفي، لكن مصداقية هذا التيار اهتزت بعنف بعد تصريحات المفتي العام للتنظيم الدولي للاخوان المسلمين «يوسف القرضاوي» ضد ثوار البحرين، وضد سورية التي حاول افتعال فتنة طائفية فيها.
إزاء ردود الفعل بالنسبة للحدثين، لجأ جناحا التيار إلى الهدوء وادعاء الاعتدال، والانصراف (في العلن) إلى ترتيب إقامة أحزابهم. لكن لم تغادرهم أطماعهم التي تولدت نتيجة للتصويت على التعديلات الدستورية، وتصوراتهم عن قبول جماهيري واسع لهم. وبالتالي عملوا على ادخار جهدهم للحظة المناسبة والتحضير لها.
عرضت السعودية «حزمة مساعدات مالية سخية» على مصر مقابل اعفاء مبارك وعائلته من المحاكمة. لكن العرض قوبل برفض قاطع من المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وننوه بأن هذا العرض كان يستهدف أمرين، أولهما هو انقاذ هذه الأسرة، أما الثاني فهو ايجاد شرخ عميق بين الشعب والجيش وتسعير الغضب الجماهيري بما يؤدي ربما إلى فوضى عارمة تقوض وتجهض الثورة.
مع اقتراب لحظة الحقيقة لم يكن هناك مفر من أن تقوم القوى المضادة للثورة بتعبئة كل قواها في الداخل لعمل كبير ظنوه حاسماً، وهو بدخول مكثف لبلطجية النظام القديم إلى ميدان التحرير والاعتصام فيه والاختلاط مع شباب الثورة المعتصمين بحيث يصعب التمييز بين الفريقين، وتفجير الموقف بما وجد في خيامهم من أسلحة بيضاء وزجاجات معبأة بالبنزين، وقنابل مولوتوف، ومسدسات. وشاهد الجميع على الشاشات كميات الأسلاك الشائكة والمتاريس الحديدية وقضبان سكك حديدية نصبت في الميدان. وحسب شهود عيان أعلن أحد هؤلاء البلطجية في الميدان أن بحاراً من الدم سوف تسيل ليلاً (أي في نفس الليلة التي يحال فيها ميارك وعائلته للتحقيق). وفي ظروف غموض الموقف وقيام البلطجية بأعمال القتل في شباب الثورة المعتصمين يتم الصدام مع الجيش. وهكذا يوضع اسفين بين الجيش وبين الشعب في ظل هذا الغموض، وتعم الفوضى التي تمكن القوى المضادة للثورة من السيطرة على البلاد. لكن الخطة تم إجهاضها، وتم إخلاء الميدان بواسطة الجيش وجماهير الثورة معاً. وعاد من جديد الهتاف الشهير «الجيش والشعب يد واحدة».
كان العقل المدبر لهذا الأمر الخطير وقيادة تنفيذه، هو المدعو ابراهيم كامل، أحد أهم أعمدة لجنة سياسات جمال مبارك وأحد أكبر طواغيت المال ومساهم وشريك في صناعة الطيران الإسرائيلية، كان هو أحد اثنين دبرا ما يسمى موقعة الجمل في ميدان التحرير، ولكنه تمكن من الإفلات. هذه المرة لم ينجح في الإفلات، إذ كان مدير مكتبه موجود مع البلطجية في ميدان التحرير لإدارة العملية، وهو ما دفع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في إجراء غير مسبوق لإصدار الأمر بالقبض على ابراهيم كامل واحالته إلى التحقيق.
تزامن مع هذه الأحداث وغيرها عملية هجوم واشاعة للتشكيك والكراهية ضد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ثم تصاعد الهجوم إلى الجيش المصري ذاته، لإرساء الحالة التي تساعد على تنفيذ المخطط.
الوجه الآخر للمشهد:
كان يوم الجمعة الفائت تجلياً لتحول نوعي كبير في أداء قوى الفعل الثوري تجاوز الهدف المعلن منه وهو «جمعة المحاكمات والتطهير» إلى آفاق أبعد.
وفيما كان صوت اليمين المحلي والمستورد، المدني والديني هو الأعلى منذ الأيام الأولى للثورة، حيث ساندته جميع وسائل الاعلام المصري والعربي والغربي، وهو ما كان يتناقض جذرياً مع أهداف قوى الفعل الثوري الحقيقية في ميادين وشوارع المدن المصرية بما في ذلك ميدان التحرير، فإن المشهد قد تغير بشكل حاسم يوم الجمعة التي امتدت فاعلياتها إلى العديد من المدن المصرية.
ركزت قناة «الجزيرة» كعادتها على منصة واحدة من منصات عديدة أقيمت في مظاهرة المليونين بالميدان. غلب على هذه المنصة الطابع الإخواني والسلفي والليبرالي الذي ركز على المحاكمات والحريات، بينما باقي المنصات الأخرى التي التفت حولها الغالبية الساحقة من الجماهير فقد اشتمل خطابها إلى جانب موضوع المحاكمات والتطهير على الجانب الوطني، والاجتماعي، والديمقراطي، أي على الخطوط العامة لبرنامج وأهداف ومطالب قوى الفعل الثوري، وهو ما يعبر عن تعمق الوعي ، وادراك الخطر الشديد المتمثل في اختزال أهداف قوى الثورة في حيز يسمح بوصول قوى لا تختلف نوعياً عن النظام القديم، وبما لا يحدث تغييراً في طبيعته، أي إجهاض الثورة وسرقتها.
امتدت النقلة النوعية إلى تحرك آلاف المتظاهرين في مظاهرتين هما الأكبر خلال عقود، إحداهما تحركت صوب سفارة العدو الصهيوني بالجيزة، حيث اعتصم المتظاهرون مطالبين بطرد السفير وقطع العلاقات مع العدو والتضامن مع الأشقاء في غزة، وقد خلت هذه المظاهرة من السلفيين والإخوان، أما الأخرى فقد اتجهت إلى سفارة الولايات المتحدة القريبة من الميدان، منددة بالسياسات الأمريكية.
الأحداث تجري بوتيرة سريعة. لعل مفتاح فهم الكثير من التحركات التي تقوم بها القوى المضادة للثورة، هو ما أعلنه مسؤولون في الولايات المتحدة من أن الثورات العربية سوف تؤدي إلى السلام مع العدو الصهيوني. وهو الأمر الذي لا يمكن تحققه سوى بإجهاض هذه الثورات بتغيير وجهتها عبر تمكين قوى اليمين، أي القوى الحاملة للمشروع الرأسمالي التابع والعميل بالضرورة، من القفز على الثورات العربية وسرقتها، وإظهار أن ذلك قد حدث بإرادة شعبية وديمقراطية.
لعل لحظة الحقيقة الساطعة الآن تؤكد ضرورة اليقظة وتطوير الأداء والصلابة كخيار وحيد أمام قوى الثورة، لإلحاق الهزيمة بقوى الثورة المضادة المحلية والاقليمية والخارجية، وتحقيق الانتصار النهائي.
■■