بوجهيها «الإسلامي- العلماني» اللبرلة التونسية خصم الشارع!
بعد العراق ولبنان وفلسطين، وغيرها، تقدم تونس دليلاً آخراً على عودة الجماهير إلى الشارع من الباب العريض. خمسة أعوام على انطلاق شرارة الانتفاضة التونسية- بكل ما تلاها من تطورات سياسية وأمنية- لم تمنع أحزمة البؤس التونسية من مواصلة النضال لانتزاع حقوقها المشروعة.
«التشغيل استحقاق.. يا عصابة السراق»، و«شغل.. حرية.. كرامة وطنية»، بهذه الصيحات، خرج الآلاف من أبناء القصرين (غرب تونس) إلى شوارع المحافظة التي تعيش تهميشاً واسع النطاق. فشل القمع الأمني سريعاً، مما دفع الحكومة الليبرالية- التي يستجدي رئيسها دعماً اقتصادياً دولياً على هامش مؤتمر «دافوس» في سويسرا- إلى فرض حظر تجول في عموم المحافظة. أما النتيجة: امتداد انتفاضة الشارع إلى تسع مدن رئيسية، ومنها إلى عموم البلاد، بما في ذلك العاصمة..!
المشهد ذاته
شرارة تلقفها المهمشون ليفرغوا ما في صدورهم: انتظر الشاب التونسي، رضا اليحياوي، نتائج مسابقة العمل في وزارة التربية، لتخرج قائمة المرشحين للعمل وقد شُطِب اسمه منها. ضيق العيش، والشعور بالظلم، دفعا باليحياوي إلى اعتلاء عمود كهربائي بالقرب من مقر محافظة القصرين صارخاً. وبعد أن مسته الكهرباء، توفي الشاب متأثراً بحروقه..
خرج زملاء اليحياوي الذين طالهم القرار التعسفي في احتجاجات طافت شوارع عدة في القصرين، ليلتحق بهم أبناء المحافظة- وهم المحتقنون أصلاً من سياسات التهميش والإفقار، وارتفاع نسبة المعطلين عن العمل- إلى الشارع. وجد «أشباه اليحياوي»، وهم الأكثرية الساحقة من السكان، فرصة للتأكيد على أن للثورة التونسية مهاماً لا بد من استكمالها..
تخبط حكومي وقرارات.. هامشية
بعد قمع الاحتجاجات الشعبية التي خرجت في القصرين، امتدت المظاهرات المطالبة بالتشغيل إلى مدن المكناسي، والرقاب، وتالة، وقفصة، وسليانة، وزغوان. وجدت هذه المدن التي تعرف محلياً بـ«حزام الفقر» التونسي، فرصة جدية للتعبير عن مطالبها. وفي مقابل العجز الحكومي، والتخبط في التعاطي مع الاحتجاجات بين محاولات قمعها تارة، واحتوائها تارة أخرى، توسعت المظاهرات لتطال العاصمة التونسية ومدناً رئيسية تشكل عصباً أساسياً في حياة البلاد، بينما تحولت في مناطق أخرى إلى اشتباكات متواصلة بين قوات الأمن والمتظاهرين.
في الأثناء، كان رئيس الوزراء، الحبيب الصيد، يلهث وراء «خطة إنقاذ» بـ32 مليار دولار، و«فرص استثمارية» جديدة قد يمنحها «المجتمع الدولي» لحكومته العاجزة. من سويسرا، وخلال مشاركته في الدورة الـ46 لمنتدى «دافوس» الاقتصادي، اكتفى الصيد بإقالة المعتمد الأول (نائب محافظ القصرين)، سفيان قربوج، وهو الخبر الذي رآه أبناء المحافظة اعتيادياً وبلا جدوى.
في موازاة ذلك، وقفت حركة «النهضة» المرتبطة بتنظيم «الإخوان المسلمين» على طرف نقيض من الحراك الشعبي، إذ دعا رئيس الحركة، راشد الغنوشي، عبر بيان أصدره يوم الأربعاء 20/1/2016 (عقب لقاءه بالسفير الأمريكي في تونس، دانيال روبنشتاين) إلى «التهدئة، خصوصاً بعد نجاح المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص».
في المقابل، اعتبر الأمين العام لـ«الاتحاد التونسي للشغل»، حسين العباسي، أن «ما يحدث في المناطق الداخلية هذه الأيام هو نتيجة منتظرة، بعد خمس سنوات من الثورة، دون التقدم في ملفات التشغيل والتنمية». بينما أكد الناطق الرسمي باسم «الجبهة الشعبية»، حمة الهمامي، أن حكومة الصيد «فشلت على جميع المستويات في إيجاد حلول للمشاكل الكبرى في البلاد»، مشيراً إلى أنها «شبيهة بحكومة تصريف أعمال دون أي برنامج أو تصور لمستقبل البلاد»، ولافتاً إلى أن «الأمور تدار من قرطاج وليس من القصبة»، في إشارة إلى أن مركز القرار هو رئيس الجمهورية ورئيس حركة «نداء تونس» الليبرالية، الباجي قائد السبسي.
وفي هذا السياق، دعا «حزب العمال» في بيان له يوم الأربعاء 20/1/2016 «عموم الشعب التونسي للخروج تعبيراً عن السخط، والرفض للخيارات المتبعة، ودفاعاً عن شعارات الثورة ومطالبها»، مؤكداً قناعته الراسخة بأن «خيارات حكومات الفشل الليبرالي عاجزة اليوم وغداً، كما بالأمس، عن تحقيق أهداف الثورة، وعلى رأسها الحق في الشغل والحياة الكريمة».
البوصلة واضحة..
لم يكن اتساع رقعة الاحتجاجات في المحافظات الأكثر فقراً بعيداً عن التوقعات، حيث يوجد في محافظة القصرين وحدها أكثر من 28 ألف معطَّل عن العمل، بينهم أكثر من 9 آلاف ممن يحملون شهادات عليا، علماً بأن هذه الأرقام تعكس واقعاً مفروضاَ على خريطة البلاد كاملة وعلى قواها المنتجة، حيث يعاني أكثر من 700.000 مواطن من البطالة، من بينهم أكثر 250 ألف من حملة الشهادات العليا.
قام التحالف الحاكم في تونس على أسس كسرت ضمنياً الثنائية الوهمية بين «إسلامي- علماني»، فعندما استشعرت جدية المعركة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، وإمكانية تقدم اليسار (الذي حلَّ في المرتبة الثالثة) في هذا الاستحقاق، تحالفت حركة «النهضة»- التي ترتدي عباءة «إسلامية»- مع حزب «نداء تونس» الذي يقدم نفسه «علمانياً»، لإنقاذ السياسات الليبرالية التي تمثل الهوية الحقيقية للطرفين كليهما.
بخروجه إلى الشارع، وثباته على مطالبه، يقدم الحراك الشعبي التونسي نموذجاً آخراً مهماً لشعوب المنطقة وحراكها الذي يثبت أنها ماضية في كسر الثنائيات الوهمية حتى انتزاع حقوقها المنهوبة: ضد الليبرالية «الإسلامية- العلمانية» في تونس، ضد منظومة الفساد العراقي بأوجهها، ضد نظام التحاصص اللبناني بوجهيه «8 و14 آذار»، ضد قوى الليبرالية الجديدة الموجودة داخل «النظام والمعارضة» في سورية..