النقب مجدداً في مواجهة القمع الفاشي
عاد جنوب فلسطين المحتلة منذ عام 1948 (منطقة النقب) ليحتل واجهة الأحداث على مدى الأيام الأخيرة. وإذا كان الإرهاب الباريسي: الإعلامي والمسلح وانعكاساته، والعدوان على مزارع الأمل في ريف القنيطرة وارتداداته، قد دفعا بالتغطية الإعلامية التي تعاملت مع تطورات الأوضاع في «رهط» إلى الخلف، فإن الدماء الزكية التي نزفت في البلدة الملتهبة قد أعادت إلى المقدمة الإخبارية والميدانية، محلياً وإقليمياً، وضع الشعب العربي الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام 1948.
جاء إعلان «يوم الغضب» في30/11/2013، بما شهده من مظاهرات صاخبة في عموم النقب- امتدت لاحقاً إلى الجليل ومدن الساحل والداخل المختلطة- احتجاجاً على قانون «برافر- بيغن»، تحت الشعار الذي توحدت حوله الجماهير العربية في الداخل «برافر لن يمر»، ليدفع بسلطات الاحتلال والتهويد لتتوقف عن البدء بتنفيذ القانون الذي يقوم على: مصادرة 800 ألف دونم، وتهجير أكثر من 70 ألفاً من الأهالي إلى بلدات جديدة، بنيت، وتم تقسيمها، على نمط معازل الهنود الحمر في الولايات المتحدة، وهدم حوالي أربعين قرية ترفض حكومات العدو المتعاقبة، الاعتراف بها. وقد أوقفت سلطات الاحتلال الاستعمارية تطبيق القانون على أرض الواقع تحت ضغط «الحراك الشبابي» الذي تصدر احتجاجات يوم الغضب وما تلاها. لكن حكومة العدو وأجهزتها التي انحنت لعاصفة التحركات الشعبية، مازالت تعمل حتى الآن على تطبيق القانون سيىء الصيت، تحت مسميات متنوعة وبأساليب ملتوية.
«رهط» في عين العاصفة
تتجاوز مساحة النقب أربعة عشر ألف كلم مربع، من مساحة فلسطين التاريخية التي تزيد قليلاً عن 27 ألف كيلو متر مربع. ويعيش في منطقة النقب قرابة مئتي ألف فلسطيني من أصل مئتين وستين ألفاً من العرب البدو في فلسطين التاريخية.
على مدى عقود عدة، تسعى حكومات المستعمرين المتعاقبة لتهجير سكانه عبر خطة «تطوير النقب» أي تهويده، وحصر/ سجن أصحاب الأرض بمساحة لا تتجاوز 2% من مساحة النقب ضمن «بلدات التركيز». وقد قامت حكومة الغزاة المستعمرين في عام 1966 ببناء ثلاث بلدات في منطقة النقب لتوطين/ حصر البدو بداخلها في مساحة ضيقة ومحدودة، رغم الرفض الواسع لهذه الإجراءات التي تنتزع البدو من بيئتهم ونمط حياتهم وإخضاعهم لشروط حياة جديدة. وهكذا ظهرت مدن «رهط وتل السبع وكسيفة». ليتم بعدها بعدة سنوات بناء أربع بلدات جديدة هي «حورا واللقية وشقيب السلام وعرعرة النقب». وتعتبرمدينة رهط أكبر البلدات السبع التي أقامتها سلطات الاحتلال، إذ يبلغ عدد سكانها نحو 55 ألف نسمة ولا تزيد مساحتها عن 12 ألف دونم.
لم يكن مساء يوم الأربعاء 14/1/2015 عادياً في الحارة 26 في مدينة رهط. فقد اقتحمت وحدة «ماحش» الأمنية (إحدى وحدات شرطة الاحتلال) الحي المذكور وقامت بقتل سامي الجعار دون أن «يقترف» أي ذنب، بعد أن أطلقت عليه النار خلال نشاط «ماحش» في الحارة. كما جاء في الرسالة التي بعث بها المحامي، عمر خمايسي، من مؤسسة ميزان إلى وحدة التحقيقات مع أفراد الشرطة في الوحدة المذكورة. وقامت قوات أخرى من الشرطة باعتقال والد الشهيد سامي وأحد أقاربه بدون أي سبب، وتم توقيفهما في محطة شرطة مدينة بئر السبع والاعتداء عليهما بشكل وحشي مما أدى لدخولهما المشفى للعلاج. كانت تلك الحادثة الدموية الإجرامية كفيلة بأن تشعل النار في جنبات مدينة رهط، وفي عموم مناطق التواجد العربي في فلسطين المحتلة على شكل اعتصامات واضرابات وتحركات شعبية.
مساء يوم الأحد 18/1 تم تشييع جثمان الشهيد الجعار إبن الـ21 عاماً، بناءً على ترتيبات المجلس البلدي للمدينة مع الشرطة والأجهزة الأخرى، خرج أكثر من عشرين ألفاً من المواطنين العرب من النقب والجليل والمدن الأخرى في جنازة مهيبة لدفن المغدور في مقبرة البلدة، لكن فاشية المحتل وإصراره على التدخل غير المبرر، أدى لسقوط شهيد آخر هو سامي الزيادنة، 47 عاماً، وإصابة العشرات بجراح نتيجة القمع الوحشي وإطلاق قنابل الغاز. الناشط الإعلامي من النقب، أنس أبو دعابس، كتب شهادته من موقع الحدث: «المقبرة التي دارت فيها الأحداث هي مقبرة «رهط» الرئيسية والتي تسمى بمقبرة «أبو منصور»، وتقع خارج المدينة، وتبعد عدة كيلومترات عن مركز الشرطة الموجود داخل المدينة»، لافتاً إلى أن «البلدية نسَقت مع الشرطة. حيث اتفق على أن لا يوجد عناصر هذه الأخيرة على المفترقات أثناء تشييع جثمان الشهيد سامي الجعار، ما يعني بالضرورة أن لا مبرر لاقتراب العناصر من ميدان الجريمة الجديدة»، مضيفاً: «هذه المرّة ليس للشرطة أن تدّعي أن أحداً اعتدى عليها، ولا أخل بالنظام، حيث كان معروفاً ومتفقاً مسبقاً أن الشارع سيكون مغلقاً نتيجة الجنازة لعدّة ساعات، إلّا إذا أرادت الشرطة افتعال أحداث جديدة».
هبة شعبية متجددة
إقدام سلطات العدو على ارتكاب جريمتها الجديدة بعد أيام قليلة من قتلها للشاب الجعار، وإعدامها بدم بارد قبل شهرين ونصف الشهر تقريباً 8/11/2014 للشاب خير الدين حمدان في بلدة كفر كنا في الجليل، كشفت عن عنصرية ممنهجة في قتل المواطنين العرب، في ظل سعار فاشي تقوده الأحزاب/ العصابات التي تبدأ بـ«الليكود» و«البيت اليهودي» و«شاس» ولاتنتهي بـ«الحركة والعمل» و«يوجد مستقبل» و«دفع الثمن» و«أمناء جبل الهيكل».
تلك العنصرية / الفاشية، في الشوارع هي انعكاس لنهج استئصالي وإحلالي تعتنقه البنى السياسية والأمنية داخل الكيان، وهو مايفسر: تبرئة الشرطي الذي قام بقتل الشهيد، خيرالدين حمدان، في الجليل المحتل، وعدم تحميل أي مسؤولية للضابط في جيش الاحتلال الذي قتل الشهيد، زياد أبو عين، في الضفة المحتلة.
رغم الألم الذي أحدثته الجرائم الجديدة التي أقدم عليها المستعمر، فإنها أدت لضخ دماء جديدة في المواجهة الدائمة مع قوى القتل والاستئصال والتهجير، ودفعت مرة أخرى بقوى الحراك الشبابي لقيادة التحركات في الجامعات والمدن والبلدات، في ظل شعارات ثورية وتحت راية وحيدة: «العلم الفلسطيني» رفعته سواعد الشباب والشابات لتأكيد الالتزام بالقضية الوطنية والقومية.
إن الحركة السياسية للجماهير العربية داخل الوطن المحتل منذ عام 1948 بقواها الجذرية («حركة أبناء البلد» و«كفاح» وقوى «الحراك الشبابي») بدأت تأخذ منحى جديداً من خلال توجيه بوصلة النضال الوطني والقومي والاقتصادي- الاجتماعي نحو أهداف ثورية لحركة التحرر الفلسطينية والعربية، وفي تشديد نضالاتها من أجل انتزاع حقوقها المصادرة عبر أشكال الكفاح الشعبي، خارج أطر ومفاهيم «النضال البرلماني» داخل مؤسسات حكومة الكيان. لأن تحقيق أهداف الجماهير العربية يتطلب جهداً استثنائياً في المجتمع وداخل مراكز التجمعات، التي تشكل بيئته ومخزون الطاقة الوطنية/ القومية، وأدوات فعله الثوري.