أمريكا تتلقى الصفعات...  وهونغ كونغ تصرخ «ديمقراطياً»!

أمريكا تتلقى الصفعات... وهونغ كونغ تصرخ «ديمقراطياً»!

منذ بداية احتجاجات هونغ كونغ، كانت عناوين مثل: «الاحتجاجات تهدد البيت الصيني» و«الديمقراطية مطلب الصينيين» حاضرة في المقدمات الإخبارية لـ «bbc» و«Fox news» وما يدور في فلك الإعلام الممول غربياً، مما يعكس رغبة جامحة بإخفاء بعض الحقائق حول طبيعة هونغ كونغ ونظامها السياسي.

نقسم الصين، إدارياً ومالياً واقتصادياً، إلى نوعين من المناطق: أولها ما يعرف بمناطق البرّ الرئيسي للصين، عاصمتها بكين، ويحكمها الحزب الشيوعي الصيني منذ 1949. أما ثانيها، فهي المناطق ذات الحكم والاستقلال الذاتي العالي، وهي هونغ كونغ وماكاو. وفي سياق بحثنا حول هونغ كونغ، قد تبدو الإجابة حول أسباب تمتعها بالحكم الذاتي منطلقاً لفهم الأحداث الأخيرة فيها.
حرب الأفيون: الاستعمار يعزِّز السوق الحر
عام 1839 رفضت السلطات الصينية، لأسباب اقتصادية وصحية، استيراد الأفيون من بريطانيا التي باتت قوة دولية كبرى. إثر ذلك، أرسلت المملكة المتحدة قواتها إلى شواطئ هونغ كونغ، واحتلت الجزيرة عام 1841. في العام التالي، اضطرت الصين المهزومة عسكرياً في «حرب الأفيون» إلى توقيع معاهدة «Nan ging» الجائرة، والتي تنازلت بموجبها عن هونغ كونغ إلى بريطانيا.
وفضلاً عن تحويل الجزيرة إلى مستعمرة تابعة اقتصادياً وسياسياً، عملت بريطانيا خلال مئة عام من احتلالها للجزيرة على إضعاف الدور التدخلي للدولة في الاقتصاد، وفتح السوق بشكلٍ واسع أمام حركة البضائع، عدا عن التأثير البالغ بالنواة الثقافية للمجتمع الذي يشكِّل فيه أصحاب الأصول الصينية نسبة 93%. ولعب هروب رؤوس الأموال والشركات الاحتكارية الصينية الكبرى من الصين إلى هونغ كونغ- خوفاً من وصول الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة عام 1949- دوراً بالغاً في تعزيز النظام الرأسمالي في هونغ كونغ.
«الشيوعي الصيني» يستعيد هونغ كونغ
مع تمكن الحزب الشيوعي الصيني من خلق حالة ما من الاستقرار السياسي والاقتصادي في أراضي البر، اتجهت السياسة الخارجية للصين نحو استعادة الحقوق الصينية المسلوبة في هونغ كونغ. إثر ذلك وقَّعت الصين «الإعلان الصيني البريطاني المشترك» عام 1985، والذي تضمن إعادة هونغ كونغ للصين عام 1997، شرط السَّماح لهونغ كونغ بالإبقاء على نظامها الاقتصادي الرأسمالي، والإدارة الذاتية حتى سنة 2047.
وبالفعل، بقيت هونغ كونغ تتمتع باستقلال اقتصادي وإداري كبير، فيما انحصر الدور الصيني بالجانب العسكري والتمثيل الدبلوماسي الخارجي. ومع أفول نجم الاستعمار القديم، وتنامي قوة الإمبريالية الأمريكية اتُّهم قادة هونغ كونغ مرات عديدة بالارتباط مع أمريكا، والعمل وفق توصياتها.
ومع سيطرة قطاع الخدمات على اقتصاد هونغ كونغ والتبعية للمركز الرأسمالي الأمريكي، أخذت الأزمات تتفاقم فيها بمقابل النمو الحاصل في أراضي البر الصيني القريب. حيث كانت المدينة تستورد 90% من الأطعمة من دول الجوار حتى عام 2010. وفيما كان يمثّل قطاع الخدمات نسبة 89% من الناتج المحلي الإجمالي، لم تساهم الصناعة بأكثر من 9%. وحتى عام 2007 بلغ معدل التضخم 2.5% في هونغ كونغ التي تعد ثامن أغلى مدينة في العالم.
2017 في الأفق.. وصراع «الديمقراطية» يشتد
انعكس التراجع الأمريكي في العالم، بالتوازي مع نهوض الصين، بإقالة رئيس وزراء هونغ كونغ الأسبق، دونالد تسانغ، وهو الرجل المقرَّب من أمريكا والمطبِّق الأشهر لوصفات صندوق النقد الدولي، وتولى لونغ شون ينغ رئيس الوزراء الحالي منصبه عام 2012.
خلال العامين الماضيين، اتسمت فترة حكم الرئيس شون ينغ بعلاقات نوعية مع البر الصيني، وتحوَّلت أكثر من 65% من صادرات هونغ كونغ باتجاه الصين، بمقابل رفع الصين لصادراتها نحو هونغ كونغ. في وقتٍ بدأت فيه العلاقات تعود إلى سياقها الطبيعي على قاعدة: «هونغ كونغ منطقة صينية تحت إدارة ذاتية»، وليست منطقة مستقلة إلى الأبد. وتعزيزاً لهذه السياسة، أصدرت الحكومة الصينية قرار 30 آب الماضي، الذي شكَّل بداية الأحداث الأخيرة في هونغ كونغ.
أمريكا المتراجعة ترد «ديمقراطياً»
في 30 آب، أصدرت الحكومة الصينية قراراً يقضي بإجراء الانتخابات التنفيذية المقرَّرة في هونغ كونغ عام 2017 عن طريق الانتخاب المباشر مع الحفاظ على حق الحكومة الصينية في مراجعة الترشيحات. حيث يهدف القرار إلى ضمان وصول رئيس وزراء يحافظ على التنسيق والعلاقات الوطيدة بين حكومة الإدارة الذاتية في هونغ كونغ والحكومة المركزية في بكين.
ينسف القرار الصيني هذا كل الجهود التي حاولتها الولايات المتحدة الأمريكية، عن طريق رجلها في هونغ كونغ، رئيس الوزراء السابق، دونالد تسانغ، لاستعادة زمام الأمور في المدينة بما يخدم المصالح الأمريكية فيها. على الأثر، نُظِّمت حركة «احتلوا سنترال» والتي بدأت مظاهراتها في وسط هونغ كونغ احتجاجاً على القرار الصيني، حيث تخلَّل المظاهرات مناوشاتٍ بين المتظاهرين والشرطة الصينية الموجودة في المدينة، واشتباكاتٍ أعنف بين المتظاهرين وعدد واسع من سكان المدينة، وسط اتهاماتٍ للحركة بالعمل وفق أجنداتٍ أمريكية وغربية.
عملياً، لم يكن القرار الصيني مفاجئاً بالنسبة للجميع، حيث كان لحكومة بكين أن أعلنت منذ أكثر من سنتين عزمها على إصدار قرارٍ كهذا. وبالنظر إلى أن القرار يمس استحقاقاً لن ينفذ قبل ثلاث سنوات، تتعزز الفرضية القائلة بأن احتجاجات هونغ كونغ جاءت في سياق رد الفعل الغربي على أحداث عالمية تتجاوز تفصيل هونغ كونغ، ومنها التراجع الملموس لأمريكا والغرب في أوكرانيا واستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم، وتراجع المشروع الأمريكي في اليمن.. إلخ. ومع وضع الأحداث في هونغ كونغ في سياق رد الفعل الأمريكي على تقدم القطب المقابل له، تتضح السياسة الأمريكية الساعية إلى توسيع خارطة الحرائق في العالم، والتعامل مع القطب المتقدم عالمياً كقطب واحد يبحث الغرب عن سبل اختراقه عبر إحدى الجبهات الأقل صلابة.
وهنا يتبين أن تصوير احتجاجات هونغ كونغ على أنها «حركة شعبية ديمقراطية موجهة ضد استبداد الصين» هو لعبة إعلامية تهدف إلى إخفاء الجانب السياسي والاقتصادي للقرار الصيني الأخير، والذي يعبر عن نهوض الصين والمحور الذي تنتمي إليه، بمقابل زمن الانكسارات الذي يعيشه «شرطي العالم الآخذ بالتغير».