خمسون يوماً هزت الثكنة وأحيت القضية
لم تكن الحملة العسكرية الوحشية التي شنها المستعمر الصهيوني لأرض فلسطين على قطاع غزة في السابع من شهر تموز/يوليو المنصرم، آخر الحروب، لكنها، بالتأكيد، ستكون «الجرف الحاد» الذي سُيدفع من فوقه هذا المشروع الاستعماري/ الإحلالي إلى هاوية سحيقة.
بدأت مظاهر هذه الهاوية تتفاعل على أكثر من صعيد داخل مؤسسات الثكنة /الكيان، خاصة، مع محاولة البحث عن جواب لسؤال، فرضه الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والقدرات الاستثنائية في المواجهة البطولية لقوات الغزو، براً، وفي القدرات التسليحية -والأهم: الاستمرارية- الصاروخية وفي المديات المجدية التي وصلتها الصواريخ التى غطت مساحة واسعة من أرض فلسطين المحتلة، بإلحاقها الأذى الحقيقي في قتل مايقارب العشرات (حوالي 70 من المستعمرين معظمهم من العسكريين) والمئات من الجرحى، وفي سيطرة الخوف والهلع على أكثر من خمسة ملايين داخل التجمع الاستعماري، وفي الإقتصاد بمختلف مجالاته الحيوية (الصناعة والسياحة والعمل والاستثمارات و...).
إنه السؤال المتدحرج الذي لم يصل معظم من يفكر به ويتداوله إلى جواب: بقاء الكيان/الثكنة واستمرار وجوده. إن سؤال «شرعية الوجود» الذي بدأ يتفاعل داخل عقل كل من اعتقد واهماً، أنه يقيم داخل «واحة الأمان والرخاء الأبدية»، مع تمسك الشعب العربي الفلسطيني بأرضه وثوابته الوطنية والقومية، وبسالته في مواجهة الغزاة المستعمرين كما ظهر على أرض غزة «فوق سطحها وداخل جوفها، الأنفاق».
الاتفاق/التفاهم: قديمه وجديده
إن الاتفاق/التفاهم، الذي تم الإعلان عنه إنطلاقاً من المبادرة المصرية، بعد أكثر من مائة ساعة مفاوضات غير مباشرة، تحت النيران وضمن دائرة المواجهات والاشتباكات، بين الوفد الفلسطيني ووفد حكومة المستعمرين الصهاينة عبر الوفد المصري، أدى لصمت المدافع وتوقف الطائرات الحربية عن تدمير المباني السكنية للمواطنين «أكثر من عشرة آلاف منزل» التي أدت إلى إبادة أكثر من ثلاثين عائلة، من ضمن 2137 شهيداً، وجرح 11100مواطناً ومواطنة من مختلف الفئات العمرية، ومن الطواقم الطبية والإسعافية، بحسب الناطق الرسمي (27 /8) بإسم وزارة الصحة، ونزوح مايقارب مائة ألف عائلة من منازلها، وتدمير شبه كامل للبنية الاقتصادية «صناعة وزراعة» وللمدارس والمساجد والمشافي والخدمات الطبية والتعليمية. وكذلك، وقف إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون من القطاع الصامد باتجاه مستعمرات العدو وقواته العسكرية. لم تكن بنود الاتفاق المعلن يوم 26 /8 مفاجئة لأي متابع، بل كانت في الكثير منها مستوحى من اتفاق2012 الذي جاء بعد الحرب العدوانية التي حملت اسم «عامود السحاب»، لكننا نستطيع الإشارة السريعة للموضوعات الجديدة المطروحة والتي لم يتم تناولها في 2012 والتي سيتم بحثها بعد شهر:
- طلب فلسطيني بإعادة بناء المطار الجوي الذي هدمته قوات العدو المستعمرعام 2001 في رفح.
- طلب فلسطيني بإقامة ميناء بحري.
- طلب حكومة العدو المستعمر باستعادة جثامين جنود لدى المقاومة.
- طلب حكومة العدو المستعمر بنزع أسلحة فصائل المقاومة المسلحة.
جاء إعلان موافقة وفد حكومة على التفاهمات، ليفجر فرحاً عارماً داخل القطاع المنكوب وفي كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني. فعجز قوات العدو الغازية «النخبة» في تحقيق أهداف الحملة الوحشية، التي استهدفت كما أعلن مجرمو الحكومة، السياسيون والعسكريون، نزع سلاح المقاومة وتدمير قدراتها العسكرية و«كي الوعي الفلسطيني» وتحريض الشعب على المقاتلين، الأبناء والأزواج والآباء، الذي يدافعون عن أرض الوطن وعزة وكرامة مواطنيه، قد ارتد على داخل الكيان/الثكنة، وهو ما تفجر بالخلافات داخل الائتلاف الحكومي وفي الحكومة المصغرة، وهو ماعبرت عنه كتابات أهم المعلقين والمحللين في صحافة العدو.
جبهة وطنية فلسطينية على أنقاض «أوسلو»
في عدد «هآرتس» يوم 27/8/2014، وتحت عنوان «يجب على إسرائيل أن تستعد للعملية التالية من اليوم» يكتب أمير أورن ما يلي: «سيبذل بنيامين نتنياهو الآن جهداً ضخماً ليعرض النتيجة على أنها نصر، فإذا صدق نفسه فسيكون بذلك الوحيد في جيله تقريباً. فالهدوء لن يُرد عليه بالهدوء بل بالكذب. والذي جلبه نتنياهو ورفاقه على إسرائيل في مواجهة أقوى جيوش المنطقة لمنظمة فيها أقل من 15 ألف مقاتل، وعدد أقل من ذلك من القذائف الصاروخية ليس مجرد إنكسار بل هزيمة». وفي العدد ذاته من الصحيفة يكتب جدعون ليفي: «حرب الدولة الأكثر تسلحاً في العالم لأكبر قفص في العالم. ومع كل ذلك لا يجوز أن يُنسى درسها الأول وهو حدود القوة «العسكرية»؛ ولم تساعد القنابل الذكية والغواصات المتطورة والمتفجرات الكثيرة جداً ومئات الطائرات مع طيارين ومن غيرهم، فهي لم تحسم المعركة وما كانت قادرة على حسمها».
إن ارتدادات نتائج عدوان تموز/ آب 2014 على القطاع، في مداها الفلسطيني والعربي والأممي لن تكون أقل تأثيراً مما أحدثته داخل الكيان. إن حواراً هادئاً، عقلانياً وثورياً، يجب أن يبدأ داخل الحركة الوطنية الفلسطينية: قوى وأحزاب وإطارات أهلية/مجتمعية داخل فلسطين التاريخية وخارجها، يفتح تجربة العقدين الأخيرين، بوعي نقدي ومعرفي، للوصول إلى بلورة جبهة وطنية فلسطينية تصوغ برنامجها ومهماتها، على أنقاض «اتفاق أوسلو» الكارثي، أو «اللعين» كما وصفه الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في مؤتمره الصحفي قبل أيام.
إن الصمود الرائع وبطولات رجال المقاومة والحراك الشعبي المتعاظم داخل الأراضي المحتلة عام 1948 والهبات الشعبية، التي بدأت محدودة في الأسبوعين الأوليين من العدوان، داخل الضفة لأسباب معروفة، باستثناء محافظة الخليل، والقدس، لتتوسع لاحقاً، بحاجة لوقفة جادة من الكوادر والناشطين والمتابعين، لدراسة نقاط الضعف وأسبابها، من أجل تحقيق التثمير السياسي والتنظيمي والمعرفي لبناء حركة سياسية وطنية مقاومة «بالسلاح والحجر والمقاطعة» تتفاعل مع قوى قومية ويسارية عربية وعالمية، تقف مع الشعب الفلسطيني في مواجهة الكيان الاستعماري التوسعي.