الرفيق د. قدري جميل: الشعوب محكومة بالانتصار
المرحلة الفاصلة بين الاجتماعين الأول والثاني للقوى اليسارية العربية, أجابت على مجموعة من الأسئلة، لكنها طرحت أسئلة أكثر.. فما هي الأسئلة الأساسية التي أجابت عليها الحياة؟ والحقيقة أنه حين تجيب الحياة يتوقف النقاش.
أولاً: أكدت الحياة أن الأزمة الرأسمالية الحالية, هي أزمة شاملة وعميقة, وليست عابرة ومؤقتة, وهي تغطي مرحلة تاريخية بأكملها.
ثانياً: أكدت أن أفق الحركة الثورية والجماهيرية قد انفتح انفتاحاً واسعاً. هذا الأفق الذي كان قد أغلق مؤقتاً منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين. وأكدت في الجانب الآخر انغلاق الأفق أمام الطرف الآخر, أمام العدو. الأفق الذي كان مفتوحاً أمامه حينما كان مغلقاً أمامنا.
ثالثاً: أكدت هذه المرحلة, (وهي قصيرة أربعة أشهر), صحة الافتراض الذي كان يقول: «الجماهير ستعود إلى الشارع». أكثر الحالمين والمتفائلين بيننا, لم يكونوا ليتوقعوا أن تجري العملية بهذه السرعة الضوئية. الجماهير عادت إلى الشارع, وبعودتها إلى الشارع انحل موضوع رابع..
رابعاً: عودة الجماهير إلى الشارع, حلت موضوعاً كان محل نقاش طويل, وهو موضوع البدائل.. البعض كان يعتقد أن تغييرات عميقة في بنية الأنظمة أمر مستحيل, ويرد ذلك لعدم وجود بدائل. ما أثبتته الحياة هو: البدائل لا تصمم مسبقاً, قبل بداية عمليات التغيير, البدائل تكونها الحياة في رحم عملية التغيير نفسها, لذلك يجب انتظار ولادة البدائل خلال سير العملية الثورية.
خامساً: تأكد أن الفضاءات السياسية السابقة, (وهي نتاج الخمسينيات), ليست قيد الموت السريري فقط, ولكنها دخلت عملياً مرحلة تشييع. أتكلم هنا عن البنى الحزبية والسياسية, ولا أستثني أحداً.. لا أقصد الكلام عن اليمين فقط, بل أعني البنية السياسية كاملة, وما شهدناه في مصر, تأكيد على ذلك. البنية السياسية السابقة الناتجة عن تطور خمسين عاما على الأقل كانت غائبة تماماً عن المشهد الفعلي.. إذاً هناك فضاء سياسي جديد ينشأ.
هذه الأسئلة أجيب عليها من حيث المبدأ, ولكن هناك أسئلة أخطر تتطلب الإجابة, وتتلخص في سؤال بسيط: أين نحن, وإلى أين ذاهبون؟
أعتقد أن التشخيص الصحيح للمرحلة الحالية, هو القول إننا اليوم نمر بمرحلة ثورة وطنية ديمقراطية معاصرة. وهي تختلف عن الثورة الوطنية الديمقراطية التقليدية بشيءٍ واحد, ففي المعاصرة, تندمج المهام الاجتماعية الجذرية اندماجاً وثيقاً مع المهام الوطنية العامة, ومع المهام الديمقراطية. الثورات الوطنية الديمقراطية السابقة, كانت وطنية عامة, مع منسوب مهام ديمقراطية خفيف ومنسوب مهام اجتماعية أخف. اليوم, وبفعل التطورات التي طرأت على البنى الاجتماعية والسياسية خلال خمسين عاماً, المهمة تغيرت..
الثوار في ميدان التحرير, لم يواجهوا مبارك فقط, ولا نظامه فقط.. عملياً فهم يواجهون أميركا والصهيونية, لأن هناك ترابطاً متبادلاً, اقتصادياً اجتماعياً سياسياً. على السطح هنالك مبارك ونظامه, لكن المعركة في النهاية, في جذرها, هي معركة ضد الامبريالية الأمريكية وسياساتها الكونية, وضد «إسرائيل» الصهيونية, وضد تلك الطبقات الحاملة لبرامجها الاقتصادية-الاجتماعية. هذا ما حدث عملياً حتى هذه اللحظة, سواء وعته أم لم تعه الجماهير التي خاضت العملية, هذا ما جرى ويجري موضوعياً.
هنا أريد أن أناقش رأياً يصف ما يجري بأنه تغييرات سياسية, بمعنى تغييرات دستورية. ما معنى هذا الحديث؟, وإلى أين سيوصلنا؟. أعتقد أن هذا يعني في المحصلة إجراء جراحات تجميلية على بنية الأنظمة بالمعنى السياسي, وإبقاء الجوهر الاقتصادي-الاجتماعي. الجوهر الاقتصادي الاجتماعي, ليس فقط موضوع توزيع الثروة في الداخل, إنما هو أيضاً موضوع تبادل لا متكافئ مع المراكز الإمبريالية جميعها. وتوزيع الثروة, هو نتاج ومشتق منها, هنالك قوى تريد أن تبقي الثورة الجارية في هذا الإطار. أعتقد أن غرامشي قادر على حل هذا الإشكال, أحد مفاتيح غرامشي هو مقولته حول القوة المهيمنة والقوة المحركة, القوة المحركة هي الجماهير, ولكن القوة المهيمنة هي تلك الطبقة التي تستفيد من نضالات الجماهير, وتجيرها لمصالحها, وهذا ما حدث في الثورة الفرنسية. ولذلك ففي تونس, هناك من يريد تخفيف منسوب الفساد, لأنه متضرر كرأسمالية, لكنه لا يريد التغيير في بنية النظام, ولكن هذا عملياً حلم ووهم, لأنه في ظل الأوضاع العالمية الحالية أمر مستحيل, الفساد هو منتج رأسمالي. في ظل الرأسمال المالي, وفي ظل تمركز الرأسمال وحجمه, فإن الفساد هو ناتج التطور الرأسمالي بمستواه الحالي, لذلك هل يمكن النضال ضد الفساد دون النضال ضد الرأسمالية؟, هل المسألة مسألة قوانين وأخلاق فقط؟, أم أن للمسألة علاقة بالبنية نفسها؟. أسئلة تحتاج إلى نقاش وإجابة..
أخيراً, مأساتنا كثوريين, أننا في فترة التراجع الحقيقية, في النصف الثاني من القرن العشرين, كانت عقليتنا عقلية منتصرين, خطابنا خطاب منتصرين, ونحن كنا مهزومين. اليوم, حينما توفرت الظروف الموضوعية للانتصار, ما زال البعض يعمل بعقلية ومزاج المهزومين, جاءت الثورة التونسية, وتلتها الثورة المصرية, كي تغير وتعدل في هذا المزاج, وتثبت أنه يمكن التقدم إلى الأمام..
نحن اليوم في وضع تاريخي جديد, أشبهه بالوضع التاريخي عقب الحرب العالمية الثانية, حيث الانتصار على الفاشية, وانهيار نظام الاستعمار القديم, والنهوض الثوري العام. كل ذلك لأن النظام الإمبريالي تلقى ضربة موجعة, واضطر إلى التراجع. اليوم نرى شيئاً مشابهاً, النظام الجديد الذي أرادت أميركا فرضه, تلقى عدة ضربات, وهو في طور التراجع, وهذا يفسح المجال لخلق فضاءات سياسية جديدة, ولنشوء عصر ثوري جديد, علينا أن نعمل جاهدين للتكيف والتأقلم والتعلم منه, لأننا محكومون بالانتصار .