الرفيق حمزة منذر: لا يمكن إحداث التغيير الثوري إلا باستعادة المنصّة المعرفية
قدم الرفيق حمزة منذر مداخلة، بين فيها الرؤيـة العامة للجنـة الوطنيـة لوحـدة الشـيوعيين السـوريين
حول الوضـع الدولـي والإقليمـي والمحـلي ومهـام قـوى اليسـار..
الأزمة الرأسمالية الاقتصادية العالمية ـ (كصاعق للانفجار):
إن انفجار واستمرار تفاقم الأزمة الرأسمالية العالمية يطرح على بساط البحث الدروس المستخلصة والتي تسمح بالوصول إلى استنتاجات جديدة:
- رأسمالية دون أزمة عميقة، أمر مستحيل ويبقى السؤال متى؟ وكيف؟
- تعميق التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، أي أن علاقات الإنتاج القائمة في بلدان المركز وفي الأطراف تمنع نمو القوى المنتجة والذي لم يعد ممكناً دون تغيير علاقات الإنتاج. وهذا يعني أن لا عدالة ولا نمو اليوم في النظام الرأسمالي بسبب درجة تمركز رأس المال أكثر فأكثر بأيدي قلة من طواغيت المال في أي نظام رأسمالي.
- إن تصدير الأزمة إلى الخارج في الظروف الجديدة زاد من تدهور المستوى المعيشي في بلدان المركز الرأسمالي وشكل صاعق انفجار في بلدان الأطراف والتي نضجت في عدد منها الظروف الموضوعية للتغيير بالمعنيين الطبقي والاجتماعي، وهذا ما يثبت أن جميع الانتفاضات الشعبية هي من حيث الجوهر ضد الرأسمالية المتوحشة سواء وعت ذلك أم لا.
- المخرج الحالي من الأزمة ليس فقط لا يشبه سابقيه، بل أصبح مستحيلاً لأن الاحتياطات الرأسمالية قد استنفدت. وهذا يعني أن الأزمة الحالية ليست مؤقتة أو عابرة، وليست جزئية وموضعية، بل هي أزمة عميقة تثبت تنبؤات ماركس وأنجلز ولينين حول الانهيار الحتمي للرأسمالية كنظام.
إن الوقوف عند الأزمة الرأسمالية وتداعياتها لا يدخل في باب التحليل النظري المجرد، بقدر ما يدخل في إطار رؤية القادم وتحقيق البدائل الضرورية له. وهنا لابد من تناول مواقف البعض من قوى اليسار فيما يتعلق بالأزمة كتعبير عن تشوش في الرؤية وضياع البوصلة وما يمكن أن يسببه ذلك من ضرر على مجمل تطور الحركة الثورية لاحقاً. ولعل أكثر المواقف خطورة وجموداً لبعض قوى اليسار وتتناقض مع الماركسية ـ اللينينية كعلم، تكمن في عاملين إزاء هذه الأزمة وهما:
1) اعتبار أن هذه الأزمة دورية فقط، وهذا يعني الانغلاق على التفسير القديم للأزمة: «انتعاش، ركود، انحسار» يتلو ذلك انتعاش، وبالتالي يعبر ذلك عن إغلاق أفق النضال الثوري للتغيير وتجاهل أن الأزمة الحالية تختلف عن سابقاتها (1914، 1929) في جانبين غاية في الأهمية والدلالة وهما:
أ- فائض الإنتاج الكلاسيكي تحول إلى فائض مال وسلاح حالياً.
ب- كما أن الفائض المالي والسلاح أصبح مستمراً وليس دورياً، والأهم من ذلك هو عدم القدرة على إيجاد الحلول اللازمة عبر التوسع الرأسمالي جغرافياً بسبب محدودية مساحة الكرة الأرضية التي استولت الرأسمالية عملياً على كل أرجائها اقتصادياً ثم سياسياً وعسكرياً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومع كل ذلك تتفاقم الأزمة أفقياً وعمودياً.
2) اعتبار أن البدائل غير جاهزة والوهم بإمكانية الخروج الآمن من الأزمة.
وهذا الخطأ في التفسير يفضي إلى شل إرادة الحركة الثورية في التغيير المطلوب وقيادته. وإذا كانت الأزمة تمر بمراحل وأطوار، صعوداً وتأزماً، فإن البدائل لا تظهر في بداياتها، بل في نهاياتها كما تدل التجربة التاريخية... فحتى الحزب البلشفي لم يظهر على الساحة فعلياً كحزب جماهيري إلا قبل عام من الثورة أثناء اشتداد تناقضات الأزمة، والتي فعلّتها الحرب.
إن المؤشرات الحالية تشير إلى تعمّق الأزمة ودخولها إلى المرحلة الثانية والتي تؤثر مباشرة على الاقتصاد الحقيقي، حيث النمو الآن في البلدان الرأسمالية يقارب الصفر، وهذا ما رفع مستوى الهجوم على المكاسب الاجتماعية للشعوب، ورفع حدة التناقضات الاجتماعية في البلدان الرأسمالية وبلدان الأطراف على حد سواء.
من هنا أهمية استعداد الحركة الثورية لمواجهة اللحظات القادمة على المستويات العالمية والإقليمية والداخلية، لحظات انسداد الأفق التاريخي نهائياً أمام النظام الرأسمالي بكل تنويعاته، ولحظات انفتاح الأفق التاريخي أمام قوى العملية الثورية العالمية بكل غناها وخصائصها المتنوعة في جهات الأرض الأربع.
المعركة الوطنية وتداخلها مع المعركتين الاجتماعية والديمقراطية..
بسبب ظروف تاريخية محددة، تحولت المنطقة الواقعة بين جنوب وشرق المتوسط حتى قزوين إلى مساحة مواجهة رئيسية مع قوى الرأسمالية العالمية (والحركة الصهيونية العالمية ضمناً). ومنذ مطلع هذا القرن ازدادت أكثر من ذي قبل العدوانية الامبريالية بهدف إحكام قبضتها على هذه المنطقة سواء عبر الحروب المباشرة أو عبر تسعير الصراعات القومية والدينية والمذهبية، لما لهذه المنطقة من أهمية جغرافية ـ سياسية وخصوصاً بسبب مواردها النفطية.
وفيما يتعلق بمنطقتنا، تحاول الإمبريالية الأمريكية وحليفتها إسرائيل الصهيونية تفكيك نتائج سايكس ـ بيكو نفسها عبر تجزئة وتقسيم الدول المقامة إثر ذلك. ولا شك أن الدفاع عن الدول الناشئة في القرن العشرين هو أمر وطني هام في مواجهة مخططات الإمبريالية، ولكن هذا الموقف يبقى في إطار الدفاع. أما الانتقال إلى الهجوم فيتطلب تعميق رؤيتنا كقوى وطنية ـ ثورية لمفهوم وحدة مصالح شعوب هذا الشرق العظيم المستهدف بالتفتيت جغرافياً وديمغرافياً.
ومثلما يتكون فضاء سياسي جديد على المستوى العالمي ومن قارات مختلفة في مواجهة العدوانية الإمبريالية، حري بشعوب هذا الشرق، والتي جمعتها على مر التاريخ مصالح اقتصادية واجتماعية وثقافية، أن تشكّل فضاء سياسياً واقتصادياً كاملاً تتعمق فيه إرادة التحالف والتآخي والنضال المشترك على مختلف المستويات، وصولاً إذا لزم الأمر وسمحت الظروف، إلى تشكيل اتحاد إقليمي يتجاوز حدود الدول القائمة ليوحدها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في وجه المخططات الإمبريالية الأمريكية ـ الصهيونية التفتيتية.
أما على المستوى الخاص فإن كل شعب من شعوب هذه المنطقة يخوض معركته الوطنية بالتداخل والترابط بين المهام الوطنية العامة والمهام الاجتماعية الاقتصادية والديمقراطية المترابطة جدلياً ببعضها البعض.. خصوصاً بعد أن أثبتت كل التجارب في المنطقة وآخرها مصر، مدى ارتباط الأمن الوطني بالأمن الاجتماعي. أي أنه لا يمكن الحفاظ على الموقف الوطني في أي من بلداننا من دون حل المسألة الاجتماعية ـ الاقتصادية. وهذا يقودنا إلى الحديث صراحة ودون مواربة أنه لا يمكن حل المسألة الاجتماعية ـ الاقتصادية حلاً جذرياً إلا في ظل الاشتراكية، لأن جوهر الاشتراكية القادمة: «أعمق عدالة اجتماعية، وسلطة الشعب التي تحمي توزيع الثروة». ومثلما أن الحديث عن عودة الاشتراكية القديمة كما كانت لا يعدو عن كونه كلاماً فارغاً، كذلك العمل على تشويه التجربة الاشتراكية الماضية وعدم الاستفادة من خبراتها ومنجزاتها الإنسانية العظيمة، أمر يعيق السير نحو الأمام، في حين أن المطلوب هو كيفية استيعاب التجربة وصولاً إلى تحقيق جوهر الاشتراكية المتمثل بالعدالة الاجتماعية وتأمين سلطة الشعب التي تقود وتحمي عملية توزيع الثروة على الكتلة الرئيسية المنتجة للخيرات المادية في المجتمع.
ويبقى السؤال
كيف الظفر بالديمقراطية؟
لاشك أن الديمقراطية هي أحد أضلاع المثلث الذي تحدثنا عنه آنفاً، والذي تترابط وتتداخل فيه المهام الوطنية والاجتماعية ـ الاقتصادية والديمقراطية، حيث أن كل هذه المهام أولويات. لكن من أجل الوصول إلى هذه المهام الثلاث هناك بعض القوى في صفوف اليسار تنتظرها كهبة من السماء، لا تتحرك من أجل انتزاعها عبر تعبئة قوى المجتمع الحية ونسج الصلات معها، الشيء الذي جعل الجماهير وعامة الناس تتجاوز تلك القوى البائسة وتحقق إنجازاً تاريخياً بإزاحة من كان يسجن الديمقراطية عن سدة السلطة (كما حدث في مصر). لقد ثبت عملياً أن مواجهة القمع وحجز الحريات والمفاعيل الخطيرة للأحكام العرفية وقوانين الطوارئ لا تمكن من دون توسيع القاعدة الجماهيرية الرافضة لذلك، و دون اعتراف الناس في الشارع بمن يمثل مصالحهم الحقيقية من القوى السياسية الموجودة فعلاً على الأرض، وليس كما تسمي نفسها هي.
وهنا لابد من الاعتراف بتخلف الكثير من قوى اليسار عن إيقاع الشارع، ولو لم تكن كذلك لاستطاعت أن تلعب الدور القيادي المطلوب منها في ثورتي تونس ومصر. وفي هذه الحالة ستقوم القوى التي قادت الثورة بإعادة إنتاج قوى جديدة من رحمها للسير في المنعطف الراهن إلى أمام دون انتظار بعض القوى الغارقة في التنظير «وإسداء النصائح» لجماهير الشباب دون امتلاك أية علاقة حقيقية معها!
مرة أخرى من هو اليسار؟
كنا ولانزال نشير إلى ضرورة وجود يسار حقيقي في البلدان العربية تجمعه مهمات مشتركة عامة، يستطيع أن يملأ الفراغ الموجود في الساحة قبل أن تملأه قوى لم تكن يوماً من عداد قوى اليسار.
وإذا كان من السهل نسبياً تعريف «مفهوم اليسار»، من حيث جذرية الموقف من الإمبريالية والصهيونية والليبرالية الاقتصادية بشكل عام، فإن المسألة أكثر صعوبة عند الانتقال لتعريف «قوى اليسار»، فكم من قوة تعلن في مبادئها العامة أنها يسارية ولكنها في الممارسة العامة ليست بعيدة عن قوى اليمين، وهو ما يضلل الجماهير لحين، ويسيء إلى قوى اليسار الحقيقية وسمعتها. كما أن هناك ما يمكن أن نسميه «باليسار الماضوي» والذي لم يستطع لعب الدور المنوط به، وبالوقت ذاته لم يفهم ما هو الجديد في الوضع على الصعيدين المحلي والدولي...
وهنا نستغرب أن حزباً يحسب نفسه على اليسار في مصر ويذهب للتفاوض مع نظام مبارك قبل سقوطه بأيام إلى جانب حزبي الوفد والإخوان، ومن دون أي اتفاق مع جماهير الثورة. يبدو أن بعض قوى اليسار مازالت تكابر ولا تعترف للآن بأن فضاءً سياسياً يموت وآخر يولد مكانه، «وما جرى في ميدان التحرير نموذجاً». فالجماهير هي القوة المحركة لكل الانتفاضات في التاريخ، وتكتمل عملية التحكم بمسار الثورة أو الانتفاضة عند وجود حامل اجتماعي حقيقي معترف به من الجماهير، وهذا ما حصل مع البلاشفة يوم أن طلبت منهم مجالس السوفيتيات تولي القيادة بناء على برنامجهم الذي يلبي مصالح الجماهير.
إن الضمانة الحقيقية كي يلعب اليسار الحقيقي دوره، ليس في إعلان النوايا فقط وما أكثرها، بل في التالي:
1) الإعلان الصريح ودون لبس أن الاشتراكية هي الحل، وليس الانتظار حتى تتحقق عفوياً (وهذا غير ممكن)، فالمهمة ليس تجاوز الرأسمالية، بل القطع الثوري معها، وكذلك تجاوز اشتراكية القرن العشرين.
2) الالتحام مع الجماهير وتعميق الصلة الحية معها وكسب اعترافها الحقيقي، وليس فرض النفس عليها، وتبني مطالبها بشكل واضح وتقديم نموذج لبرنامج جديد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وديمقراطياً، يأخذ بعين الاعتبار خصائص كل بلد، لأن ليس هناك شكل نهائي للاشتراكية، ولا شكل نهائياً للتنظيم السياسي للمجتمع. ولكن الأمر المهم هو انتزاع ثقة الجماهير، وزج أكبر عدد ممكن من قواها الطليعية في عملية التغيير الثوري على الصعد كافة، ولا يمكن تحقيق كل ذلك إذا لم تستعد قوى اليسار المنصة المعرفية التي وقف عندها آخر منتصرينا في قوى العملية الثورية العالمية، في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، من أجل الانطلاق للأمام، لأن استعادة الدور الوظيفي لقوى اليسار لا يتحقق بالحماسة وحدها، بل من خلال امتلاك أعلى درجة في العلوم العامة وتطوير العلم الماركسي ـ اللينيني وحمايته من خطري النصوصية والعدمية!.