هكذا هي الثورة
الثورة ترحب بكم..! بسـَطت نخبة بلدنا كفها، ولا شيء لديها تقدمه. فهي قادرة على التدمير إنما عاجزة عن البناء. بإمكانها أن تقمع إنما تعجز عن القيادة. بمقدورها أن تسرق لكنها تعجز عن المشاركة. تستطيع أن تخطب إنما لا كلام لديها.
ترجمة: موفق إسماعيل
نخبة ميتة لا نفع منها يـُرتجى، مـَثلـُها مـَثل الكتب المتشبعة بالمياه والخيام وأكياس النوم والحقائب وعلب الأطعمة والملابس التي رماها عمال تنظيفات مدينة نيويورك في حاويات شاحنات القمامة، صباح ذات ثلاثاء. لا فكرة واحدة لديها، لا خطة، ولا تملك أدنى تصور عن المستقبل. وفي جنان المغفلين يتبختر منخور نظام شركاتنا العملاقة الحاكم في بورتلاند وأوكلاندونيويورك بأفراد شرطته المزودين بالهراوات.
لعلهم يعتقدون أن بمقدورهم تنظيف «الفوضى» بمجرد إجبارنا على التفرق، بحديث عن الصحة الجسدية والأمان! ويظنون أننا سنذهب إلى بيوتنا ونقرّ بدولة شركاتهم العملاقة! بدولة غدا صعباً فيها التمييز بين الجريمة وسياسات الحكومة، حيث، بالنسبة لأولئك المتربعين في السلطة، لا يوجد ما يستحق الاهتمام أو الحماية في الولايات المتحدة الأمريكية، حتى وإن كانمواطناً عادياً. وحيث يـُسمح لطـُغـَم كبرى الشركات المطمورة تحت ملايين الدولارات أن تسلب وتنهب آخر مـِزق الثروة الجماعية والثروة البشرية، والثروات الطبيعية. دولةُ فقراؤها لا يأكلون وعمالها لا يعملون، دولة يلقى المريض فيها حتفه ويعاني الطفل فيها من الجوع. دولة فيها رضوخ المحكوم وصوت الشعب هزل إنما قاسٍ.
يطلبون منا أن عودوا إلى أقفاصكم! عودوا لمتابعة الأكاذيب والسخافات والتوافه وقيل قال المشاهير التي نلقمكم إياها 7/24 عبر التلفاز! استثمروا مخزونكم العاطفي في منظومة التسلية والترفيه الواسعة! لاحقوا ديون بطاقات ائتمانكم! سددوا قروضكم! وكونوا ممتنين لفـُتات ما نرميه لكم! كرروا أمامنا ترتيل آياتنا عن الديمقراطية والعظمة والحرية! أدلوا بأصواتكم فيمسرح فبركاتنا السياسي! أرسلوا الشباب من رجالكم والصبايا من نسائكم للقتال والموت في ما لا ينفع ولا ينصر من حروبٍ تمد الشركات العملاقة بأضخم الأرباح! بـُكماً، تنحـَّوا فيما تقوم سوبرلجنة مجلس نوابنا المشتركة بين الحزبين، بحشركم في مجتمع فاقد للخدمات العامة الأساسية، حتى من تعويضات البطالة، سواء بإجماع الأصوات أو بمهزلة العطالة! وفي النهايةادفعوا ثمن جرائم وول ستريت!!
أمثال لويد بلانكفين في غولدمان ساكس، هوارد ميلستين مصرف «نيويورك برايفنت بانك& ترست»، ملك الإعلام روبرت مردوخ، الإخوة كوش وجيمي دايمون في «جيه بي مورغان تشايس وشركاه»، في معرض المحتالين واللصوص، يعتقدون أنها «خلصت» حتماً!! ويظنون أن صالونهم عاد لمتابعة بيزنس حصاد ما تبقـّى من الولايات المتحدة ويزيد ثروات شركاتهموثرائهم الشخصي.
غير أنهم لا يفقهون شيئاً مما يجري حولهم. مرتبكون لا حيلة لديهم إزاء هذه الانتفاضات، كارتباك حاشية قصر فيرساي أو «المدينة المحرمة» التي ما أدركت، حتى النهاية، أن العالم من حولها ينهار. رئيس بلدية نيويورك الملياردير، المغتني من انفلات وول ستريت، عاجز عن فهم الأسباب التي تجعل الناس ينامون في منتزه مكشوف ويمشون على الأرصفة، طيلة شهرين!ويقول إنه يتفهم حالة «إسهال» محتجي حركة «احتلوا وول ستريت» و«تسلـّيهم»! كما لو أن التظاهر ضد مآسي التشرد والبطالة هو ضرب من ضروب العلاج النفسي أو اللهو!! آن أوان السماح للبالغين بتولي إدارة شؤون الدولة، بعد أن باعنا رؤساء البلديات الديمقراطيون والجمهوريون، مع أحزابهم، وفرَّطوا بنا. تلك هي بداية نهايتهم.
يرسم المؤرخ كرين برينتون في كتابه «تشريح الثورة» (Anatomy of a Revolution) ملامح عامة لقيام الثورة. ويجمل الشروط المسبقة لنجاح الثورة بـ: استياء يشمل تقريباً كل الطبقات الاجتماعية، اتساع انتشار مشاعر اليأس والانحصار، توقعات لا تتحقق، تضامن موحـِّد للناس مقابل نخبة الأقلية الحاكمة، رفض المفكرين والباحثين الاستمرار بالدفاع عن ممارساتالطبقة الحاكمة، عجز الحكومة عن تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، اطراد فقدان الإرادة بين صفوف النخبة الحاكمة ذاتها والارتدادات الحاصلة في دوائرها، عزلة خانقة تجرّد النخبة الحاكمة من أي حليف وأي دعم خارجي، وأخيراً أزمة مالية.
نخبة شركاتنا العملاقة، استوفت كامل شروط برينتون. ولكن الرأي الثاني للمؤرخ الذي يسترعي الانتباه أكثر هو أن الثورة، في مرحلة انطلاقها، تطرح دائماً مطالبَ، في حال نفذتها الحكومة، يستحيل إلا أن ينتهي معها الشكل القديم للسلطة. وفي مرحلتها الثانية، التي دخلناها بدورنا، يتبدى إخفاق محاولة النخب الحاكمة سحقَ القلق والغضب والاستياء من خلال اللجوء إلىالقمع الجسدي.
شهدت نصيبي من عمليات التمرد والعصيان والثورات. من معارك مغاوير الثمانينيات في أمريكا الوسطى، والحروب الأهلية في الجزائر والسودان واليمن، إلى الانتفاضة الفلسطينية وثورات ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، حتى الحروب الداخلية في يوغسلافيا السابقة. ومررت بما كتبه جورج أورويل عن أن كل الأنظمة الاستبدادية تحكم بواسطة الخداع والقوة،لكن حالما ينكشف الخداع تعتمد حصراً على القوة، بالضرورة. وها نحن قد دخلنا عهد العنف السافر. ولن يـُستخدم جهاز الأمن الداخلي المتضخم ودولة الرقابة للقضاء على الإرهاب، بل سيـُستخدم لمحاولة وقف مدِّنا، وصدِّنا.
وفي نهاية المطاف، تنهار الأنظمة الاستبدادية، من داخلها. إذ يتفتت النظام القديم بسرعة حالما يبدأ رفض الأوامر من قِبل جنود المشاة المأمورين بتنفيذ عمليات القمع، كإخلاء المنتزهات واعتقال المتظاهرين وحتى إطلاق النار عليهم. هكذا خسر بن علي في تونس، ومبارك في مصر السلطة لحظة استحال اعتمادهما على قوى الأمن في إطلاق النار على الجماهير.
إنما ببطءٍ تجري عملية الانشقاق داخل الطبقة الحاكمة وقوى الأمن، وبشكل مستتر في الكثير من الحالات. وتتعزز هذه الانشقاقات من خلال التقيد التام بلا عنفية التظاهر وسلميته، وعدم الخضوع لاستفزازات البوليس، والتعبير اللفظي المعلن عن احترام ذوي البزة الزرقاء الرسمية، مهما ارتكبوا من فظاعات أثناء اجتياحهم الحشود واستخدامهم الهراوات كمـِدكات ضدغض الأجساد البشرية. وما استقالة شارون كورنو، نائب رئيس بلدية أوكلاند جان كوان، ودان سيغيل، مستشاره القانوني وصديقه القديم، احتجاجاً على إزالة خيام المحتجين في أوكلاند، إلا أولى بوادر تصدع الصرح. وكتب الأخير في موقع «تويتر» إثر استقالته «ساندوا حركة احتلال أوكلاند، لا الـ1%، وأعوان حكومتهم».
فيما خلا من أيام، دخلتُ حلبات الملاكمة مدركاً، ما أدركه الجمهور، أنني في مكان لا يلائمني البتة. حيث المدربون ملاكمون مجربون ينقصهم بعض الضبط أو شيء من الخبرة الاحترافية، يرتادون نوادي يتبارى فيها أنصاف ملاكمين، ويزوّرون بيانات ملفات خبرتهم القتالية، ويتمرنون بنا. هناك، لم تبقَ المباريات تدور حول الرغبة بالفوز، بل غدت تتعلق بالكرامة واحترامالذات. صار المرء يقاتل تعبيراً عن ماهيته ككائنٍ إنسان.
وكانت تلك الجولات قاسية، مؤلمة جسدياً ومحبـِطة معنوياً. قد تـُطرح فيها أرضاً ثم تقف مترنحاً، أو تتقهقر إلى الخلف جراء ضربة خاطفة بثقل صبـّة أسمنتية. تتذوق ملوحة الدم على الشفتين. يغشى بصرك. تؤلمك أضلاعك، نـُقرتك، بطنك. أو تحس بترصص قدميك. إنما قدْر ما تصمد، ينقلب المتفرجون لتأييدك. وحين لا أحد تخطر بباله فكرة فوزك حتى أنت، ومع كل لحظةتمر، فيما يزداد خصمك ثقة، وتفترسه غطرسته حتى يغدو لا مبالياً، يعتريك إحساس بتفجـّر دفق جديد فيك من طاقة، قدرة متحررة باقترانها مع هبـّة غضب المحروم تصرعه.
لم ألبس زوج القفازات منذ ثلاثين عاماً. لكنني أحسست، صباح هذا اليوم، بالدفق ذاته يخز أحشائي يقيناً بأن المستحيل بات ممكناً، وإدراكاً بأن الجبار العاتي آيل إلى سقوط.