خسارة أوكرانيا.. هي خسارة أوروبا..
يؤكِّد العديد من المختصين في السياسة والعلوم الاستراتيجية، أن الأحداث، التي تشهدها أوكرانيا اليوم، تتعلَّق مباشرة بمسألة «الشراكة الأوكرانية الأوربية»، وتخوّف روسيا من هذه الشراكة، وبالتالي «فرض روسيا إملاءاتها على الحكومة الأوكرانية».
ما الذي تخشى عليه روسيا، ويتحكم فيه الأوربيون، عبر أوكرانيا؟ تفترض وجه النظر السابقة أن الغاز، الذي تصدره روسيا إلى أوربا، عبر أوكرانيا، هو مكسر العظم للروس في حال إتمام الشراكة الأوكرانية الأوربية.
الرؤية من زاوية أخرى
نظرة بسيطة إلى أرقام تصدير الغاز الروسي إلى أوربا، تثبت أن شركة «غازبروم Gazprom»، المصدِّر الأساسي للغاز الروسي، قدَّرت الاستجرار الأوربي للغاز بـ 160 مليار متر مكعب، وهي أكبر نسبة منذ 2008، والدراسات الاقتصادية في أوروبا تؤكِّد أن الطلب من الغاز الروسي يزيد عن ذلك التقدير بـ90 مليار متر مكعب. أي أن الجانب الأكثر تضرراً، في حال انقطاع وصول الغاز الروسي إلى أوروبا، هم الأوربيون أنفسهم، دون أن ننسى الضرر الكبير الذي سيصيب الروس في تلك الحالة.
لكن، هل يوجد لدى الأوربيين بدائل عن الغاز الروسي؟ ببساطة، لا، حتى الآن على الأقل، وفي المدى المنظور للأعوام القليلة القادمة. وأما أحلام الحصول على غاز المتوسط من لبنان وسورية، وفتح الطريق أمام خطوط الغاز القطري، فقد بات واضحاً أنها انتهت، وأن النفوذ الأمريكي والغربي بات أضعف من قبل، ليس فقط في سورية، بل في المنطقة كلها، من تركيا إلى مصر وشمال أفريقيا.
ما هي البدائل الروسية؟
في مقابل انعدام البدائل لدى الأوربيين، في المدى المنظور على الأقل، نجد أن لدى الروس بدائل متعددة تعوِّض عن خط الغاز المار بأوكرانيا. بداية عبر «خط السيل الشمالي»، الموجود فعلاً، والذي يمر تحت بحر البلطيق، ويضمن آفاق تصدير، بكمياتٍ أكبر بأضعاف مما يتم ضخه اليوم.
ثم هناك «خط السيل الجنوبي» الذي يتم تنفيذه، بكلفة تقديرية تصل لـ 38 مليار دولار، وباستطاعة أولية بـ63 مليار متر مكعب، «السيل الجنوبي» يتجاوز أوكرانيا كلياً، فيمر عبر البحر الأسود واصلاً كل أوربا الجنوبية الغربية، المحتاجة للغاز السائل لتدفئة المنازل، وتوليد الطاقة للمنشآت الصناعية الحيوية. بناءً على ما تقدم، بات جلياً أن لا مشكلة لدى الروس في الشراكة الأوكرانية الأوربية، حتى لو أدت لوقف التصدير عبر أوكرانيا.. فأين المشكلة إذاً؟
خسائر المحور الأنغلو ــ أمريكي
يؤكِّد المسؤولون الروس، وعلى رأسهم الرئيس، فلاديمير بوتين، أن ما يحدث في أوكرانيا اليوم لا علاقة مباشرة له مع قضية الشراكة الأوكرانية الأوربية، ولا هو ثورة، كما يدأب إعلام المصارف، والشركات العملاقة في أوربا، على تصويره، والتحركات اليوم في أوكرانيا هي، عملياً، مظاهرات منظمَّة وليست حركة شعبية، وهي تهدف لخلق سد بين أوربا كاملة وروسيا، عبر إعطاء درس لما قد يحصل في حال التقرب من روسيا، وخلق منطقة توتر. وفي الواقع، فإن تغيّرات التوازن الدولي، والتراجع الأمريكي الواضح، يبرران النزوع الأوروبي لمحاولة الخروج من المركب الأمريكي المنهار بأقلِّ الخسائر من ناحية، والاستقتتال الأمريكي في إيصال الأمور في أوكرانيا لهذه المراحل من التأزم والعنف. والأمثلة هنا واضحة وعلنية، ألمانيا، مثلاً، باتت تسير بشكل مستقل، نسبياً، عن الاتحاد الأوربي (قيادة الناتو وصندوق النقد عملياً) في تقاربها مع روسيا. هذا التقارب يحمل مصلحة كبرى لكلا الطرفين، باعتبارهما قوى اقتصادية كبرى، قادرة على تسلُّم قيادة القارة الأوربية.
وأيضاً، فإن استمرار عجز قيادة الاتحاد الأوربي عن حل المشاكل الاقتصادية البنيوية لأعضائه، وازدياد عدد الدول الأوربية المفلسة، أو القريبة من الإفلاس، وكلُّ ذلك بسبب السياسات الليبرالية المفصَّلة، في الحقيقة، على مقاس عمالقة «وال ستريت» في واشنطن، وشركائهم المباشرين في بريطانيا، والدولة الأوربية المرتبطة، بإحكام، بالمزاج الأمريكي، والمتعالية على المصالح الأوربية، يجعل من فكرة التقارب الروسي الأوربي واقعاً موضوعياً، يبحث عن تجسيده في العبارات السياسية.