الأردن بلد محكوم بالتأرجح
محمد الفضيلات محمد الفضيلات

الأردن بلد محكوم بالتأرجح

كما الأرجوحة في موسم الأعياد، هو الأردن منذ مطلع عام 2010 وحتى الآن، وربما مستقبلاً، لا يعرف الاستقرار، يندفع إلى القمة بجنون عندما يرمي المعارضون بثقلهم، ضمن الحدود التي يحتلونها على مساحة اللعبة، وفي لحظة توشك الحِبال على الانقطاع - كما يُخيل - يخف وزن المعارضة ويتعاظم وزن النظام المتماسك للآن رغم أزماته

عندها يهوي الأردن إلى القاع من جديد. يخف التأرجح العصبي دون أن تستقر الأرجوحة، تبقى ذهاباً وإيابا، في انتظار دفعة تعيدها إلى جنون الحركة.
يا لهذا البلد المُثقلُ بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية تتعمق يوماً بعد يوم، وتتعقد كلما قيل أن الحل اقترب، حتى رفع المعارضون شعار «الحل بالحل»، يَعنون حل المؤسسات القائمة وتفكيك النخب الحاكمة وتغيير النهج الاقتصادي المُسيِطر. في مواجهتهم أعلن النظام أن لا حل إلا بإصلاحٍ ارتضاهُ لنفسه دون مشورة أو حوار، أحلاه مُرٌّ.

تأرجح سياسي

يعيش الأردن المَحكومُ بنظام نيابي ملكي وراثي، مخاضاً سياسياً يهدف إلى إصلاح النظام القائم، دون طموح لتغييره. لا خلاف على الملك في الأردن، الخلاف على صلاحياته التي تمتد إلى السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، المفصولة نصاً لا تطبيقاً.
البداية مطلع العام 2010، حين استفاق الأردن على حراك عمالي في مختلف القطاعات، تطور إلى انتفاضة عمالية تطالب برفع الأجور وتحقيق الأمان الوظيفي وحرية التنظيم النقابي. وما بدأ تلقائياً أخذ أبعادا تنظيمية بدخول نخب سياسية على خط الاحتجاج رافعة شعار «خبز، حرية، عدالة اجتماعية». ما لبث الأمر أن تحول سياسياً بعد أن انقضّت أحزاب المعارضة على حراك الشارع، مستغلة حالة الغضب الشعبي ضد الأنظمة القائمة مطلع العام 2011. هي إذاً اللحظة التاريخية المناسبة لتحقق المعارضة أهدافها التي عجزت عن تحقيقها منذ نشأةِ الدولة عام 1921. حشدت المعارضة كوادرها واستفزت مؤيديها وتحالفت مع الغاضبين على نظام الحكم والمتضررين من فساده، ونزلت إلى الشارع مطالبة بإصلاح النظام، بلا أهداف انقلابية أو راديكالية في حركتها.
دفعت المعارضة الأرجوحة ببطء، رد النظام بقوة، موغلاً في فرض القبضة الأمنية، التي أتت بنتائج عكسية. انطلق جنون الحركة، تحولت البلد إلى ساحة للاعتصام لا يخمد واحد حتى تتولد العشرات. استشعر النظام الخطر، هناك أنظمة عربية تسقط والربيع العربي يمتد، بحث عن خلاصه ووجده بإقالة الحكومة التي طالب الشارع بإسقاطها. لم يأت الخلاص، أقيلت أو استقالت ثلاث حكومات بعد الحكومة الأولى وكلها بنكهة السقوط، ومع تكليف الملك لكل حكومة جديدة يَهتفُ الشارع الغاضب «تسقط الحكومة القادمة».
الخلاف ليس على الشخص بل على النهج، القائم على صلاحيات الملك بتعيين الحكومة عبر تكليفه رئيس الوزراء الذي يختاره لتشكيلها، وهو ما ترفضه المعارضة الطامحة إلى حكومات برلمانية تشكلها أغلبية نيابية. هنا المعضلة. يحتاج ذلك إلى تغيير النظام الانتخابي المطبق في البلاد منذ العام 1993، والذي يقسم الأردن إلى دوائر انتخابية ضيقة يُنْتخب فيها مرشح واحد عن كل دائرة. نظام يبرر المدافعون عنه بمراعاته للتقسيم المناطقي والتوزيع العشائري في التمثيل النيابي، وهو ذاته الذي يُذكي التناحر المناطقي والعشائري بل العرقي، ويَحول دون قدرة الأحزاب على الوصول المؤثر إلى البرلمان. أمام تعنت النظام، دَفَعَ المعارضون الأرجوحة بقوة، فاندفعت بجنون نحو القمة عندما طالبوا دون وعي بإسقاط النظام.
أوشكت حبال اللعبة أن تنقطع، وجد النظام مخرجاً بإغراق المعارضة بالحوار، فشكل لجنة للحوار الوطني وأخرى لتعديل الدستور، وفتحت قنوات سرية للحوار مع المعارضين كلٌ بحسب مفاتيحه.
يا للإصلاح! عُدل الدستور بزيادة صلاحيات الملك، وخرجت لجنة الحوار بقانون انتخاب توافقي.. أُودِع الأدراج، وفرض النظام قانونه الذي جَمّل قانون المرشح المفرد بعدد من المقاعد في البرلمان خصصت للقوائم الوطنية. تبخرت أحلام الإصلاح، وأشغل النظام المعارضين بحل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة بناءً على القانون الجديد. انتخابات جاءت ببرلمان لا يختلف كثيراً عن سابقه، فهو يعمل ضمن «السيستم». وأُعلن أنه البرلمان الذي يمهد لقيام حكومة برلمانية يدرك الجميع، نظاماً ومعارضة، أنها لن تأتي.
ينتظر النظام من المعارضة الشكر، وتنتظر المعارضة التي خفت حركتها من النظام الاعتذار والشروع بإصلاحات حقيقية. وتمضي الأرجوحة بينهما، ذهاباً وإياباً، في انتظار حافز يعيدها إلى جنون الحركة.

تأرجح اقتصادي

الأردنيون لا تؤرقهم السياسة، اليوم، كما يؤرقهم الاقتصاد. فبلادهم توشك على الإفلاس بمديونية تشكل 80 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وبعجز ثابت في الموازنة يلامس 4 مليارات دولار سنوياً. وكل ذلك حصيلة سنوات الفساد التي رافقت جلوس الملك عبد الله الثاني على عرش المملكة في العام 1999 دون خبرة أو استعداد. فسادُ تلك السنوات تقدّره المعارضة بـ 14 مليار دولار.
ينكر النظام المبلغ رغم إقراره بالفساد. وتغيب التقديرات المحايدة. وهو الفساد الذي يدفع المواطن الأردني ضريبته اليوم، عبر سياسات الإصلاح الاقتصادي التي تنتهجها الحكومة، من خلال تحرير الأسعار ورفع الدعم عن السلع، حتى الأساسية منها.سياسة تحفز جنون الأرجوحة. فما أن تُقْدم الحكومة على رفع سعر سلعة تحت مبرر رفع الدعم أو إعادة توجيهه إلى مستحقيه، حتى يلقي المواطنون بثقل غضبهم على الأرجوحة التي تندفع بقوة دون أن يمتلك النظام القدرة على ردعها إلا باللجوء إلى القبضة الأمنية. ومؤخرا وضع النظام الشعب الفقير بين خيار القبول بالفقر وسياسات الإفقار أو الانزلاق إلى الفوضى السائدة في دول «الربيع العربي»، فيصمتون ويتوقفون عن الحركة. تكشف تقديرات صندوق النقد الدولي للعام 2012 أن معدل دخل الفرد في الأردن يبلغ 4900 دولار سنوياً. دخل يتآكل نتيجة لتوالي الارتفاعات الناتجة عن سياسة تحرير الأسعار التي طالت حتى الآن المحروقات والكهرباء، ويُتوقع بأن تطال الماء والخبز.
وما يزيد من صعوبة عيش الأردنيين أن سياسة تحرير الأسعار غير مصحوبة بتعديل الأجور، إذ يبلغ الحد الأدنى للأجور في الأردن 268 دولارا، فيما يُحدد مسح نفقات دخل الأسرة للعام 2010 خط الفقر بـ 1131 دولارا. تبرر لهم الأرقام الانتفاضة التي يشعلونها كلما ارتفعت الأسعار، ويبررون الصمت الذي يعقبها بخوفهم أن يصيبهم ما أصاب غيرهم. حالمون هم ينتظرون من الدولة أن تَشعُرَ بحالهم، غير أن الدولة تنتظر منهم تحمل المزيد في سبيل إنقاذ البلد من الانهيار الاقتصادي.

تأرجح اجتماعي

وجدت الأزمة الاقتصادية انعكاساتها على الواقع الاجتماعي للمواطنين، فسجلت جرائم السرقة خلال العام 2012 رقماً غير مسبوق في تاريخ المملكة، إذ تكشف إحصائيات الأمن العام وقوع 21259 جريمة سرقة. ويخجل الرسميون من ربط الجرائم بالواقع الاقتصادي، ويرجعونها الى الزيادة الطبيعية في عدد السكان، وغير الطبيعية الناتجة عن توافد اللاجئين. لم تعد جرائم السرقة في الأردن حكراً على المدن، بل وصلت الأرياف والبوادي التي يعيش فيها أبناء العشيرة الواحدة.
وانتشرت المخدرات بشكل مقلق، مقتحمة أسوار الجامعات والمدارس. وحسب إحصائيات رسمية، يموت ما متوسطه 55 شخصاً سنوياَ نتيجة لتعاطيها.وارتفعت نسب العنوسة (العزاب فوق سن الثلاثين) مسجلةً 40 في المئة في صفوف الإناث و49 في المئة في صفوف الذكور، خلال العام 2012، وارتفعت نسب الطلاق التي سجلت في العام 2012 حسب إحصائيات دائرة قاضي القضاة 8610 واقعة طلاق بزيادة تجاوزت 12 في المئة عن إحصائيات العام 2011. كل ذلك يحدث وأكثر، وما يزال المجتمع الأردني يتحدث عن القيم ومكارم الأخلاق، والنخوة والشهامة البدوية، غير أنه حديث بدأ يردد أمثالاً على غرار «ان خُليت قُلبت» و «لسه في الدنيا خير».
هكذا حال الاردن منذ ثلاث سنوات مضت، محكوم بالتأرجح الدائم، غير أنه لا يطال القمة ولا يسقط في الهاوية، لا يصنع الثورة ولا يرفع الشعب راية الاستسلام.

المصدر : «السفير العربي»