إيجارات المنازل... مبالغٌ تحطّم الأمل في سكن لائق
تمثل أزمة الإيجارات نموذجاً صارخاً للأزمة الاقتصادية- الاجتماعية التي يعيشها السوريون، حيث تتشابك الأوضاع المعيشية القاسية مع استغلال بشع لحاجة الناس لسكن يُؤويها، وذلك في غياب تام لأي ضوابط أو تشريعات قانونية تضبط السوق العقارية.
كما أن الفجوة الهائلة بين مستويات الدخل ومتوسط الإيجارات باتت أشبه بهوَّة عميقة يصعب ردمها؛ ففي ظل حدٍّ أدنى للأجور لا يتجاوز 750 ألف ليرة (63 دولاراً)، ومرتبات بالكاد تلامس الـ 100 دولار بعد الزيادة الأخيرة، نجد أن متوسط إيجار الشقق من الرقة مروراً بحلب وحمص يتراوح ما بين 250 إلى 350 دولار، ما يبتلع تقريباً ثلاثة أضعاف الدخل الشهري.
أما فيما يُسمى المناطق «الراقية» في دمشق تتراوح الإيجارات ما بين 1000 و4000 دولار شهرياً للشقق الفاخرة، بينما تنخفض إلى 800 أو 1500 دولار للمنازل القديمة أو التي تحتاج إلى صيانة.
بينما تتأرجح الإيجارات في الأرياف، مثل جرمانا، وصحنايا، وضاحية قدسيا، بين 150 و200 دولار.
ظاهرة الدولرة وشروطٌ تعجيزية
تتفاقم هذه الأزمة بفعل الدولرة المفروضة على سوق الإيجارات؛ فقد لجأت مكاتب السمسرة إلى التسعير والتعامل بالدولار، للحفاظ على أرباحهم ومضاعفتها، ما شكّل ضربة قاصمة للقدرة الشرائية للمواطن الذي يتقاضى راتبه بالليرة. فأصبح أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما اللجوء إلى مدّخراته– إن وجدت– والتي نضبت بفعل الارتفاع المستمر الذي تشهده الأسواق، أو الدخول في دوامة الاقتراض، مما يرهق كاهله بديون متراكمة ويزيد من معاناته.
تُضاف إلى ذلك شروط تعجيزية، أبرزها الدفع لسنة مقدماً، والتي يفرضها العديد من السماسرة والملاّك. وقد تحول هذا الشرط إلى قاعدة في العديد من المناطق، وخاصة التي تشهد طلباً مرتفعاً. ما حرم الأغلبية الساحقة من العائلات من فرصة الحصول على سكن لائق، وأجبرهم على البحث عن بدائل غير مناسبة، أو حتى النزوح إلى مناطق بعيدة عن عملهم ومدارس أبنائهم.
الاحتكار والتلاعب بالأسعار
يعمل السماسرة في ظروف يسودها غياب الشفافية والرقابة؛ حيث يجد السمسار أرضية خصبة لاستغلال يأس العائلات الباحثة عن مأوى، ويتحول من وسيط لتسهيل عملية الإيجار إلى لاعب يسعى إلى تحقيق أقصى قدر من الربح على حساب المستأجر.
وفي ظل غياب معلومات دقيقة وشفافة حول العقارات المتاحة وأسعارها الحقيقية، يصبح السمسار هو المصدر الوحيد للمعلومات. ما يمنحه القدرة على التلاعب بالأسعار وتضخيمها بشكل مصطنع.
وفي حين يلجأ المتحكمون بأسواق العقارات إلى تبرير ارتفاع الأسعار بزيادة الطلب ومحدودية العرض، إلا أن الواقع يشير إلى أن عدداً كبيراً من الوحدات السكنية لا تُطرح للإيجار، حيث يخلق هذا السلوك الاحتكاري فجوة مصطنعة بين العرض والطلب. وبدلاً من أن يؤدي وجود وحدات شاغرة إلى خفض الإيجارات، فإنها تُحتجَز وتصبح أداة لرفع الأسعار.
غياب القوانين
رغم تصريح حاكم المصرف المركزي، عبد القادر حصرية، في 12 تموز الماضي، أنهم يعملون على وضع قانون «يلبّي تطلعات الشباب السوري للحصول على سكن لائق في سن مبكرة» حيث سيتضمن «نظاماً متكاملاً يراعي احتياجات الواقع»، إلا أن الفراغ التشريعي والرقابي يبقى هو السمة الأبرز.
يفتح هذا الغياب الباب واسعاً أمام الممارسات الاحتكارية التي تستنزف جيوب المواطنين وتهدد استقرارهم. حيث تجبر تكاليف السكن المرتفعة الأفراد والأسر على التنازل عن جوانب أساسية (مثل الصحة والغذاء)، ويعيق قدرة الشباب على تكوين الأسرة والاستقرار، مما يساهم في تفاقم مشكلات اجتماعية أخرى. كما أن حالة عدم اليقين الدائمة بشأن القدرة على دفع الإيجار تولد ضغوطاً نفسية هائلة، وتشكل مصدراً للقلق والتوتر.
أزمةٌ تجرّ أزمات
تعكس أزمة الإيجارات صورة للنظام الاقتصادي الذي ما زال قائماً على الريع والاستغلال، بدلاً من الإنتاجية والعدالة. فقد تحول إيجاد سكن، وهو حق أساسي للمواطنين من المفترض أن تضمنه الدولة عبر مشاريعها السكنية الموجهة للطبقات الفقيرة، إلى حلم، في زمنٍ تُسحق فيه الغالبية العظمى من السوريين تحت وطأة أوضاع اقتصادية شديدة القسوة.
يساهم التخلي التام للدولة عن دورها في ترسيخ بيئة الاستغلال والاحتكار، فمِن دون تدخل جذري وفعال- من خلال إصدار قوانين عادلة، تحدد سقفاً للإيجارات وتراعي القدرة الشرائية للمواطنين، ووضع تشريعات رقابية صارمة، ومحاسبة المتلاعبين، -ستستمر هذه الأزمة في تمزيق النسيج الاجتماعي ودفع البلاد نحو مزيد من التدهور.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1251
فرح شرف