الكهرباء والشركات القابضة... وعود التحسين ومخاوف التغلغل على السيادة

الكهرباء والشركات القابضة... وعود التحسين ومخاوف التغلغل على السيادة

في تصريحات متزامنة، رسم وزير الطاقة محمد البشير ووزير المالية يسر برنية ملامح المرحلة المقبلة لقطاع الكهرباء في سورية، بين خطط لزيادة ساعات التزويد وتأسيس شركات قابضة، ووعود بالحفاظ على أسعار تراعي الفقراء.

وعود التحسين

وزير الطاقة أوضح بتاريخ 8 آب 2025 أن البلاد «ستصل فيها ساعات تزويد الكهرباء من 8 إلى 10 ساعات يومياً في عموم سورية»، مضيفاً: «ندرس إنشاء شركة قابضة كبرى تشرف على توليد الكهرباء ونقلها وتوزيعها في سورية». وأكد أن تأسيس هذه الشركات «سيتم بشكل تدريجي» مع الإشارة إلى إنجازات فنية مثل إعادة تأهيل خط الغاز الواصل مع تركيا «بزمن قياسي وبكوادر وطنية».
أما وزير المالية، فأكد لصحيفة «الوطن» بتاريخ 8 آب 2025 أن «أسعار الكهرباء ستراعي الفقراء... وهناك أكثر من زيادة رواتب قادمة»، مشيراً إلى أن الأسعار الحالية «متدنية جداً»، وأن الحكومة ستعمل على «إلغاء الضريبة على استهلاك الكهرباء وخاصة للقطاع الصناعي لتخفيض تكاليف الإنتاج». كما شدد على أن الدولة «حريصة جداً على ألا ترمي بالأعباء على الفئة الفقيرة».

مخاطر التوجه نحو الشركات القابضة

رغم هذه الوعود، فإن التوجه نحو تأسيس شركات قابضة كبرى في قطاع الكهرباء يثير أسئلة حساسة حول السيادة الوطنية وضمان العدالة الاجتماعية في خدمة أساسية تمس حياة كل مواطن. 
فالشركات القابضة، إذا دخل إليها رأس مال خاص أو حصلت على امتيازات واسعة بلا رقابة صارمة، قد تتحول من أداة لتحسين الأداء إلى قوة تتحكم في القرار الاقتصادي بعيداً عن سلطة الدولة.

الخطر الأبرز يتمثل في إمكانية تغوّل القطاع الخاص داخل هذه الشركات، ما يعني:
تحويل قرارات التسعير إلى اعتبارات ربحية بحتة، على حساب مصلحة المستهلكين محدودي الدخل.
فقدان الدولة لقدرتها الكاملة على التدخل السريع في الأزمات، إذ قد تقيد العقود الموقعة أو التزامات المستثمرين الأجانب مساحة الحركة.
تهديد البنية التحتية للطاقة باعتبارها جزءاً من الأمن القومي، إذا ما تحولت ملكيتها أو إدارتها إلى جهات غير حكومية.

معضلة الحفاظ على الكهرباء الرخيصة

تصريحات وزير المالية عن مراعاة الفقراء تصطدم واقعياً بآليات عمل الشركات القابضة ذات المنطق التجاري الربحي. 

فالكهرباء الرخيصة للفقراء تحتاج دعماً مالياً دائماً، وهذا الدعم يجب أن يأتي من الخزينة العامة أو من فوائض الشرائح الأعلى استهلاكاً. أما الشركات التي تسعى إلى تعظيم أرباحها، فقد ترى في هذه السياسة «عبئاً مالياً» لا يتماشى مع أهدافها، مما يفتح الباب أمام ضغط لرفع الأسعار أو تقليص الدعم.

دروس من تجارب دولية... حين ابتلع السوق الكهرباء

ليست المخاوف من تغوّل الشركات القابضة في قطاع الكهرباء نظرية بحتة، فقد شهدت عدة دول تحولات مشابهة انتهت بفقدان السيطرة على التسعير والخدمات.
ففي الأرجنتين في التسعينيات من القرن الماضي، تمت خصخصة معظم قطاع الكهرباء مع وعود بخدمة أفضل، لكن بعد الأزمات الاقتصادية، طالبت الشركات الخاصة برفع الأسعار بشكل حاد، وعندما رفضت الحكومة، قلّصت الشركات الاستثمار والصيانة، ما أدى إلى انقطاعات واسعة.

وفي جنوب إفريقيا أدخلت شركة «إسكوم» المملوكة للدولة شراكات خاصة في بعض المجالات، لكن ضعف الرقابة أتاح تغلغل مصالح تجارية أثرت على استقرار الإمداد، وأصبحت البلاد تعاني من انقطاعات متكررة وارتفاع في الفواتير.

وفي لبنان وعلى الرغم بقاء شركة الكهرباء بيد الدولة، أدى الاعتماد على مقدمي خدمات من القطاع الخاص دون رقابة فعالة إلى تضخم الكلفة وغياب الشفافية، ما جعل الكهرباء عبئاً مالياً هائلاً على الموازنة وأجبر المواطنين على اللجوء إلى مولدات خاصة بأسعار باهظة.

هذه النماذج تؤكد أن إدخال القطاع الخاص أو حتى إضفاء الطابع التجاري البحت على إدارة الكهرباء دون إطار سيادي صارم يمكن أن يقود إلى فقدان الدولة لزمام المبادرة، وتحوّل الكهرباء من حق عام إلى سلعة يتحكم بها السوق، مع كل ما يعنيه ذلك من تهديد لحق الفقراء في الوصول إلى طاقة ميسورة الكلفة.

ضرورة الإطار السيادي الصارم

حتى لا تتحول الشركات القابضة إلى «دولة داخل الدولة»، من الضروري أن تحتفظ الحكومة بالملكية الكاملة أو بالأغلبية الحاسمة لهذه الكيانات، وأن تُبقي تحديد التعرفة والتخطيط الاستراتيجي بيدها حصراً. 

كما يجب وضع آليات قانونية تمنع بيع أو تأجير البنية التحتية الاستراتيجية للطاقة لأية جهة غير حكومية دون موافقة سيادية واضحة.

السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية

إن الطموح إلى تحسين واقع الكهرباء في سورية عبر رفع ساعات التزويد وتطوير البنية الإدارية والفنية أمر مرحّب به، لكن الطريق إلى ذلك يجب أن يمر عبر حماية السيادة الوطنية وضمان العدالة الاجتماعية، حتى لا يصبح الفقراء أول ضحايا تحوّل الكهرباء إلى سلعة خاضعة بالكامل لمنطق السوق.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1238