مصياف وريفها... انكفاء دون اكتفاء والفقر يتصدر المشهد
على الطريق الواصل بين دمشق وحمص، وما إن تنعطف نحو الشمال الغربي باتجاه مدينة مصياف، حتى يتبدل المشهد نسبياً؛ من الصحراء والجبال الجرداء إلى المساحات الخضراء من الأراضي الخصبة والبساتين الممتدة، وصولاً إلى جبال وغابات غاية في الجمال تحيط بالمدينة وقراها. لكن، وعلى الرغم من هذا الجمال الطبيعي، تفوح من شوارعها وبيوتها الريفية البسيطة رائحة واقع معيشي خانق، وتفيض الأعين بقصص مؤلمة تجاوزت حدود الإنسانية.
يعيش أهالي مدينة مصياف والقرى المحيطة بها، ومعظمهم من الفئات المفقرة، واقعاً قاسياً افتقدوا فيه أدنى مقومات الحياة الأساسية، فوجدوا أنفسهم تحت خط الفقر، إن لم يكن في قاعه المدقع. ينتظرون المساعدات الإنسانية والوعود الحكومية المتكررة بتحسين المعيشة والخدمات، لكن بقي الواقع على حاله، مع تغيرات هامشية لا تكاد تُذكر، في ظل حكومات متعاقبة تتقن التمييز بين السيئ والأسوأ من خلال سياساتها وممارساتها اليومية.
إهمال مزمن ومستمر
تعاني المدينة وريفها من مشاكل خدمية كثيرة ومزمنة، في ظل إهمال حكومي تاريخي، وسياسة ممنهجة لتهميش الريف السوري، قديماً وحديثاً. فالسلطة اليوم تركّز جلّ اهتمامها على تصدير صورة «سورية الجديدة» إلى الخارج، دون اكتراث حقيقي بمعاناة الداخل.
مصياف، كما معظم المناطق السورية، تواجه أزمة مياه خانقة هذا العام، رغم أنها كانت تُعرف بوفرة ينابيعها الباردة وأمطارها الغزيرة. اليوم، جفّت الينابيع، ونضبت الآبار، واختفت البحيرات الصغيرة نتيجة لقلة الأمطار وتغيّر المناخ والحفر العشوائي، ما أفقد المدينة هويتها المائية.
أما شبكة المياه الرسمية، فتعاني ضعفاً شديداً. يؤكد أهالي إحدى القرى المرتفعة أن المياه تنقطع عنهم إلى عشرة أيام متواصلة، ويضطرون لشراء الماء من أصحاب الصهاريج بتكلفة تصل إلى 40 ألف ليرة سورية لكل 5 براميل. قد يبدو المبلغ بسيطاً للبعض، لكنه مرهق عند تكرار التعبئة وسط قلة الدخل. وتصل الكلفة الشهرية للمياه في بعض القرى إلى أكثر من 350 ألف ليرة، رغم تقنين الاستخدام. وفي المدينة، لا يختلف الوضع كثيراً، إذ تتراوح كلفة تعبئة المياه بين 70 و100 ألف ليرة لكل 5 براميل.
أما الكهرباء، فحالها أسوأ، إذ تعيش المدينة وقراها على نظام تقنين قاسٍ: ساعتان من التغذية مقابل 22 ساعة من الانقطاع، ما يجعل «الصبر» رياضة يومية إجبارية. كذلك، تعاني القرى من أزمة مواصلات حادة، خاصة بين المدينة وريفها، وهو ما يثقل كاهل طلاب الجامعات وسكان القرى النائية.
واقع معيشي وأمني مأساوي
في زوايا البيوت، تئنّ أم ثكلى، أو أب مفجوع، أو رب أسرة عاجز عن تأمين الحد الأدنى من احتياجات أسرته. أطفال في عمر الزهور يبيعون الخبز في الأزقة، وشباب صغار يفترشون الأرض ببسطات متواضعة، منادين «جابرني ببسكوتة»، بعد أن ودّعوا تعليمهم وأحلامهم، مرغمين على تحمّل مسؤوليات لا تناسب أعمارهم.
هذا ليس مشهداً من رواية حزينة، بل واقع معاش في مصياف ومحيطها، كما في معظم المناطق السورية. أما الأسعار، ورغم تشابهها نسبياً مع باقي المحافظات، إلا أنها تبقى مرتفعة جداً مقارنةً بقدرة السكان الشرائية شبه المعدومة، خاصة بعد التسريح التعسفي لعدد كبير من الموظفين دون بدائل حقيقية، ما ترك كثيراً من العائلات دون مصدر دخل. ومع تراجع الإنتاج الزراعي ومردوده، تكرّست المعاناة، وبات الفقر عنوان المرحلة.
الأخطر من كل ذلك، هو الانفلات الأمني المتصاعد، حيث تتكرر حوادث القتل والخطف والسرقة، في ظل انتشار السلاح غير المنضبط الذي يُستخدم لأهداف شخصية أو سياسية أو حتى انتقامية، مما يكرّس حالة من الخوف والقلق، ويقيد حركة الأهالي، سواء للعمل أو الدراسة أو حتى للعلاقات الاجتماعية.
الفقر... ضيف ثقيل لم يستأذن
لقد استوطن الفقر بيوت مصياف وريفها دون استئذان، وفرض سطوته على الحياة بكل تفاصيلها. أفقد الناس شعورهم بالأمان، وضيّق سبل العيش الكريم، وأدى إلى تفكك أسري وبرود في العلاقات الاجتماعية. حتى زيارة الأقارب أصبحت عبئاً مادياً قد يتجاوز قدرة الكثيرين، وسط مخاوف من الجريمة أو السرقة.
لا يمكن اختزال أسباب هذا الواقع بالحرب وحدها، بل تمتد جذورها إلى سياسات اقتصادية فاشلة، لم تتغير بتغير الحكومات، وظلت تفتقر إلى العدالة والفعالية والإنتاجية. ما نشهده اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل نتيجة مباشرة لعجز الدولة عن تأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة.
إن مكافحة الفقر لا تكون بشعارات رنانة أو بنمو اقتصادي وهمي، بل عبر رؤية وطنية شاملة تُعلي مصلحة المواطن، وتبني نموذجاً اقتصادياً عادلاً يُعيد للناس كرامتهم، ويُعيد للدولة دورها الحقيقي كحامية ومعيلة. وإلى أن تتحقق هذه الرؤية، ستبقى مصياف وريفها مثالاً مؤلماً لبلد أنهكته الأزمات، ويبحث أبناؤه بصمت عن فرصة للحياة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1234