استقلالية المصرف المركزي... إصلاح مطلوب أم بوابة لتبعية جديدة؟
في تطور وُصف بالتاريخي، أعلن حاكم مصرف سورية المركزي الدكتور عبد القادر حصرية عن بدء خطوات عملية لإعادة دمج القطاع المصرفي السوري في النظام المالي العالمي، مؤكداً في مقابلة مع مجلة «ذا ناشيونال»، تم إيرادها على صفحة المصرف الرسمية بتاريخ 27 حزيران 2025، أن البنوك السورية بدأت تواصلاً مباشراً مع المؤسسات المالية الأمريكية بعد انقطاع دام أكثر من خمسين عاماً. كما كشف عن نية المصرف تعديل تشريعاته بهدف تعزيز استقلاليته.
هذه التصريحات تأتي في لحظة سياسية مفصلية، حيث دخلت سورية مرحلة انتقالية جديدة عقب سقوط سلطة نظام الأسد، وبدأت العقوبات الغربية والأمريكية بالزوال تدريجياً في ظل التوجه الدولي «المعلن» نحو دعم استقرار سورية وإعادة بناء مؤسساتها.
ورغم أهمية هذه المبادرات من حيث الشكل، فإن مضمونها يطرح تساؤلات جوهرية حول التوقيت، والسياق، والمخاطر الكامنة في اعتماد سياسة نقدية مستقلة ضمن بنية دولة لم تكتمل بعد، والسعي إلى الانخراط في نظام مالي عالمي تُحدَّد قواعده خارجياً.
الاندماج المالي في لحظة هشة... هل هو ضرورة أم خطر؟
من حيث المبدأ، إعادة التواصل مع الأسواق العالمية قد تمثل نافذة لإنعاش الاقتصاد، واستعادة الثقة، وجذب الاستثمارات. غير أن الاندماج في النظام المالي الغربي، خاصة بعد عقود من القطيعة، لا يأتي بلا شروط.
وبينما تُقدّم هذه الخطوات كدليل على «الانفتاح» و«الإصلاح»، يجب الحذر من أن مثل هذا الانخراط السريع في منظومة ذات معايير سياسية ومؤسساتية صارمة قد يحمل في طياته خطورة حقيقية على السيادة الاقتصادية السورية.
فمع انعدام التوازن بين بنية الاقتصاد السوري المتهالكة، والمؤسسات المالية الدولية، ذات الأجندات المعلنة والخفية، قد تجد سورية نفسها خاضعة لسياسات نقدية وإصلاحات خارجية مقابل دعم فني أو إعادة علاقات مصرفية، بما يشبه ما جرى في دول ما بعد النزاعات مثل العراق أو السودان وغيرها.
استقلالية المصرف المركزي... أداة إصلاح أم تفويض بلا ضوابط؟
في التصريحات نفسها، أكّد حاكم المصرف «النوايا الجادة لتعزيز استقلالية المصرف المركزي»، معتبراً أن ذلك يشكل «ضمانة للاستقرار النقدي واستعادة الثقة في النظام المصرفي».
لكن في سياق انتقالي هش، حيث لم تتشكل بعد حكومة ديمقراطية متوازنة، ولم تُبْنَ سلطة تشريعية فعالة أو جهاز قضائي مستقل، فإن الحديث عن «استقلالية مصرف مركزي» قد يتحول من مطلب إصلاحي إلى شكل جديد من الانفصال المؤسساتي، خارج الرقابة والمساءلة الوطنية.
الخطورة الأكبر تكمن في أن هذا النوع من الاستقلالية– حين يتزامن مع انفتاح مالي خارجي– قد يجعل المصرف المركزي أكثر ارتباطاً بمصالح ومطالب المؤسسات الغربية من ارتباطه بأولويات المجتمع والاقتصاد الوطني السوري.
السيادة أولاً
هل نعيد بناء مؤسسات الدولة أم نستبدل التبعية السياسية بتبعية مالية؟
ففي لحظة مفصلية من إعادة بناء الدولة السورية، لا يمكن فصل المسار الاقتصادي عن المشروع الوطني. إذ إن بناء مصرف مركزي مستقل ومرتبط بالخارج دون إطار سياسي وطني جامع، قد يؤدي إلى الآتي:
خضوع السياسات النقدية لآليات السوق العالمية بدلاً من الحاجات التنموية المحلية.
تعطيل قدرة الدولة على دعم الفئات الضعيفة، تحت ذريعة «محاربة التضخم» أو «تحرير السوق».
تهميش القرار المحلي مقابل إرضاء متطلبات الشركاء الدوليين والمانحين.
فالاستقلالية هنا– في حال غابت الرقابة البرلمانية والمجتمعية– قد تتحول إلى تفويض مفتوح لمؤسسة غير منتخبة، تدير أهم أدوات السيادة الاقتصادية في لحظة بالغة التعقيد.
الإصلاح مطلوب... لكن بشروط السيادة
لا شك أن المصرف المركزي السوري يحتاج إلى إصلاح شامل، وتحرير من ممارسات الماضي، وتحديث في أنظمته. لكن هذا الإصلاح لا يمكن أن يُعزل عن المسار السياسي الوطني.
فاستقلالية المصرف لا تعني حياده عن الدولة، كما أن الانفتاح على النظام المالي العالمي لا يعني تفكيك السيادة المالية. بل المطلوب اليوم هو بناء مؤسسات اقتصادية وطنية قوية وشفافة، تخضع للمساءلة، وتتفاعل مع الخارج من موقع الشريك، لا التابع.
وفي ظل هذه المرحلة الانتقالية الحساسة، فإن الحذر مطلوب أكثر من التسرع، لضمان ألا يتحول مشروع الإصلاح الاقتصادي إلى أداة لإعادة إنتاج التبعية، ولو بثوب جديد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1232