«شام كاش» من وسيلة دفع إلى أداة نفوذ
في خطوة مفاجئة، أصدرت وزارة المالية السورية قراراً يقضي بتحويل رواتب العاملين كافة في جهات القطاع العام (الإداري والاقتصادي) إلى تطبيق «شام كاش»، بدلاً من صرفها عبر المصارف الحكومية التقليدية كما كانت عليه الحال.
القرار أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الشعبية والاقتصادية، ولا سيما في ظل ضعف البنية التحتية التقنية في البلاد، وانعدام الثقة العام في التطبيقات المالية الخاصة.
فما هي أبعاد القرار، مميزاته، سلبياته، الجهات المستفيدة؟
وما هي السيناريوهات المستقبلية الممكنة؟
ما هو تطبيق «شام كاش»؟
«شام كاش» هو تطبيق إلكتروني يُشغله بنك صرافة خاص (غير حكومي)، يُقدم خدمات مالية للمستخدمين تشمل:
- استلام الرواتب.
- دفع الفواتير والمخالفات وغيرها.
- تحويل الأموال بين المستخدمين.
- السحب النقدي من خلال شبكة من الوكلاء المحليين، مثل «الفؤاد والهرم»، وهي شركات خاصة.
ورغم محدودية انتشاره سابقاً، والكثير من الملاحظات القانونية على عمله ارتباطاً بالمصرف المركزي وبقية الجهات العامة والخاصة، بما في ذلك التحفظات الهامة من ناحية أمان معلومات وبيانات المستخدمين وعدم الموثوقية، أصبح الآن، بموجب القرار الجديد، المنصة الوحيدة لاستلام الرواتب الحكومية.
ميزات التطبيق من وجهة نظر رسمية
من الناحية التقنية والنظرية، يوفر التطبيق عدداً من الميزات:
- سهولة الوصول إلى الراتب دون الحاجة للذهاب إلى المصرف.
- خدمات دفع إلكترونية متعددة مثل الفواتير، المخالفات، الرسوم.
- تحويل فوري للأموال بين مستخدمي التطبيق.
- واجهة بسيطة ولا تتطلب حساباً بنكياً.
لكن هذه الميزات تصطدم بتحديات أكبر وأكثر تعقيداً على أرض الواقع، خاصة في سورية.
تحديات حقيقية في الواقع السوري
بالإضافة إلى التحديات القانونية ناحية الشفافية بمشروعية عمله وترخيصه، وناحية عوامل الأمان والموثوقية، فهناك تحديات أخرى لها علاقة بالبنية التحتية، منها:
- انقطاعات الكهرباء المتكررة يُصعب تشغيل الموبايل أو التابلت أو حتى أجهزة الصراف والوكلاء في ظل هذه الظروف، حيث لا تتجاوز ساعات التغذية الكهربائية في بعض المناطق 2–4 ساعات يومياً.
- ضعف شبكة الإنترنت عقبة أخرى هامة، فمعظم المستخدمين يعتمدون على باقات الهاتف الخليوي، وهي باهظة الثمن وبطيئة. وتوقف الشبكة يعني توقف إمكانية الوصول إلى الراتب أو استخدامه.
- يضاف إلى ما سبق ضعف الثقافة الرقمية، فنسبة كبيرة من الموظفين الحكوميين من كبار في السن، أو من مناطق ريفية لا تملك معرفة كافية بالتطبيقات أو التحويلات الرقمية، ومع غياب التوعية أو التدريب سيشكل ذلك عبئاً إضافياً.
الخسائر المتوقعة على المصارف الحكومية
سنكثف الخسارة المتوقعة بالنقاط الآتية:
- خسارة كتلة الرواتب، حيث لم تعد المصارف الحكومية هي من تستقبل رواتب الموظفين، ما يقلل السيولة داخلها.
- خسارة عمولات التحويل والخدمات التي كانت تشكل دخلاً ثابتاً.
- تجميد ملايين الحسابات وعدم الحاجة إلى عشرات الفروع والموظفين.
- تهميش الدور المالي للمصارف العامة، ما قد يؤدي إلى إغلاق بعض الفروع مستقبلاً.
من المستفيد من القرار؟
الجهة المشغلة لتطبيق «شام كاش» ستحقق مكاسب ضخمة، تتمثل بما يلي:
- احتكار كتلة مالية ضخمة شهرياً من رواتب موظفي الدولة.
- التحكم الكامل في البيانات المالية لأكثر من مليون شخص.
- إيرادات من العمولات عند كل تحويل أو سحب أو دفع.
- توسيع شبكة الوكلاء، وبالتالي تحقيق انتشار جغرافي وتجاري واسع.
- إمكانية بيع البيانات لاحقاً لشركات أو جهات أخرى (احتمال وارد في ظل غياب الرقابة والضوابط والشفافية).
- تحويل كافة رواتب الموظفين في سورية إلى تطبيق شام كاش سيؤدي لتحقيق ربح صافٍ للتطبيق بقيمة ٣ مليار ليرة شهرياً و ٣ مليون دولار سنوياً وفقاً لنسبة ٥ بالألف التي يقتطعها التطبيق. أليس المصرف المركزي أحق بهذه الأموال، أم أننا خرجنا من عباءة تكامل و نسبتها المقطوعة إلى شام كاش ؟!
مقارنة دولية
سنقارن بين تجربة تطبيق «شام كاش» في سورية وتجارب مشابهة من دول أخرى استخدمت أدوات دفع إلكترونية خاصة لتحويل الرواتب أو إدارة الاقتصاد، وسنأخذ مثالين بارزين:
- تجربة “M-Pesa” في كينيا، وهو تطبيق محفظة إلكترونية أطلقته شركة (Safaricom) وبدأ كتجربة بسيطة لتحويل الأموال بين الأفراد، ثم تحول لاحقاً إلى وسيلة رسمية لتحويل الرواتب ودفع الفواتير، وفُرض التطبيق كوسيلة دفع أساسية في مجتمع يعاني من ضعف البنية المصرفية، حيث لاقى انتشاراً واسعاً في الأرياف والمناطق النائية عبر شبكة وكلاء، وأصبح أداة شبه حصرية لتحويل الأموال. ومن النتائج أصبح «M-Pesa»أحد أكبر مصادر النفوذ الاقتصادي في البلاد، والشركات الخاصة المسيطرة عليه أصبحت أقوى من بعض المصارف الوطنية، حيث سيطرت على البيانات المالية للسكان، مما منحها قدرة على توجيه السوق حسب رغبتها.
- تجربة «Paytm» في الهند، وهو تطبيق دفع إلكتروني خاص بدأ استخدامه بقوة بعد قرار الحكومة الهندية بسحب فئات نقدية من السوق، وخلال فترة وجيزة، تحول إلى منصة رئيسية لـ(استلام الرواتب- الدفع- وحتى القروض). ومن خلال الدعم غير المباشر من الدولة لتوسيع قاعدة المستخدمين، فُرض التطبيق كبديل عملي عن البنوك في بعض المعاملات اليومية، كنموذج ارتباط بين القطاع المالي الخاص والمصالح الحكومية. ومن النتائج هيمنة سوقية ضخمة لـ Paytm جعلته يتحكم في سلوك المستهلك. ولاحقاً بدأت الحكومة بإخضاعه لضوابط مشددة بعد ظهور قضايا احتكار وتسريب بيانات، ومع ذلك، بقي من أقوى الفاعلين في السوق المالي الرقمي.
سيناريوهات مستقبلية محتملة
إذا استمرت الأمور كما هي في سورية، فالأرجح أن «شام كاش» سيتحول من مجرد تطبيق لصرف الرواتب إلى أداة نفوذ اقتصادي رقمي طويل الأمد، فالتعميم الحكومي جاء فجأة دون بنية تحتية داعمة، ولا تنظيم قانوني شفاف وكافٍ!
وبحال المضي بذلك فإن ذلك يعني:
- تكريس احتكار «شام كاش» من خلال توسيع خدماته لتشمل صرف الرواتب، عمليات الشراء، الرسوم الحكومية... إلخ.
- إنهاء البدائل الحكومية، مثل شركة المدفوعات الإلكترونية، المرتبطة ببعض المصارف التقليدية (الحكومية والخاصة) وتوفر خدمات الدفع الإلكتروني.
- انسحاب تدريجي للدولة من المشهد المالي الرقمي، وصولاً إلى إنهائه.
- وذلك لا ينفي احتمال نشوء أزمة تقنية أو اجتماعية تتمثل بعطل كبير، أو تسريب بيانات، أو فشل في تلبية طلبات السحب، مما يهز الثقة بالتطبيق وبالحكومة معاً.
إعادة رسم خريطة النفوذ المالي
ما يحدث اليوم ليس مجرد «تحول رقمي»، بل إعادة رسم لخريطة النفوذ المالي في سورية لمصلحة القطاع الخاص.
ففي بيئة تعاني من هشاشة البنية التحتية، وضعف الشفافية والرقابة، وغياب التنظيم القانوني الصارم، فإن تحويل الرواتب إلى جهة خاصة لا يُعد تطوراً، بل مخاطرة قد تكون نتائجها أعمق من مجرد «تحديث تقني».
فمستقبل التعامل المالي في سورية، كما يبدو، لن تُحدده الدولة وحدها من الآن فصاعداً، بل منصات التطبيقات الخاصة، ولمصلحة مستثمريها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1222