نهج اللبرلة المشوه وتحديات إدارة الاقتصاد الوطني

نهج اللبرلة المشوه وتحديات إدارة الاقتصاد الوطني

بعد سقوط السلطة البائدة، تواجه سورية مرحلة انتقالية معقدة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي ظل سياسات حكومة تسيير الأعمال، أصبح واضحاً أن نهجها الاقتصادي، القديم المتجدد، يركز على إنهاء الدعم، وتقليص القطاع العام، والتوجه نحو الخصخصة، مما ينعكس بشكل مباشر على معيشة المواطنين وواقعهم اليومي.

هذه التوجهات، المجربة والمختبرة سابقاً، تثير تساؤلات حول مدى قدرتها على تحقيق الاستقرار، وما إذا كانت تهدف إلى توليد إيرادات جديدة أم مجرد محاولة لزيادة الإيرادات على حساب الفئات الأكثر ضعفاً.

تفكك الاقتصاد وتكريس الليبرالية المشوهة

ورثت حكومة تسيير الأعمال اقتصاداً ضعيفاً منهكاً من الحرب والعقوبات، إضافة إلى شبكة واسعة من الفساد والمحسوبية التي خلفها النظام السابق.
وفي محاولة لمعالجة العجز المالي، تبنت الحكومة سياسات تقشفية تتضمن:
استكمال إنهاء الدعم عن السلع الأساسية مثل الخبز والمشتقات النفطية.
تحرير الأسعار، بما في ذلك أسعار الخدمات العامة، مما أدى إلى تضخم كبير وزيادة تكلفة المعيشة.
تقليص القطاع العام عبر تسريح الموظفين الحكوميين بحجة تقليل الإنفاق.
هذه الإجراءات ربما تهدف من وجهة نظر الحكومة إلى زيادة الإيرادات الحكومية على المدى القصير، لكنها تسببت عملياً في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وزيادة الاستياء الشعبي.
لم يقف الأمر عند ذلك فقط، فضمن محاولاتها لإعادة هيكلة الاقتصاد، تبنت الحكومة خصخصة مؤسسات الدولة، تحت مبرر ضعف الكفاءة وضرورة جذب الاستثمارات، كطرح قطاعات حيوية مثل الكهرباء للقطاع الخاص، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع التعرفة وتقليص إمكانية وصول الفقراء إليها. وكذلك التوجه إلى بيع أصول الدولة لمستثمرين محليين ودوليين، من خلال صفقات سيسيطر عليها رجال أعمال نافذون. بالإضافة إلى تحرير سوق العمل وزيادة تسريح العمالة، مما عمّق أزمة البطالة وفاقمها.
فالحكومة تظن أن الخصخصة قد توفر إيرادات فورية لتغطية بعض العجز، إلا أنها تغض الطرف بالمقابل عن مخاوف إعادة إنتاج الفساد السابق لكن بوجوه جديدة، حيث ستذهب الأصول إلى نخب ضيقة بدلاً من استخدامها لإعادة بناء اقتصاد البلاد.
والنتيجة من كل ما سبق هي تكريس النموذج الليبرالي المشوه للسلطة الساقطة، مع جرعات أكثر تسارعاً لتفكيك بنية الاقتصاد الوطني.

تحولات متسارعة عمقت الفرز الطبقي

ترافق التحول الاقتصادي المتسارع للنهج الحكومي مع أزمة معيشية خانقة، حيث أصبح المواطن السوري يواجه:
ارتفاعاً غير مسبوق في الأسعار مع غياب الضمانات الاجتماعية.
تدهور الخدمات الصحية والتعليمية بسبب تكريس انسحاب الدولة من دعمها، وسياسات التسريح التعسفي.
زيادة التردي الكهربائي، وتذبذب أسعار بدائلها ربطاً بمتغيرات سعر الصرف، والتأثير السلبي لذلك على الاستهلاك المنزلي والصناعي على السواء، وعلى التكاليف والأسعار بالنتيجة.
غياب أية سياسات تعويضية تضمن الحد الأدنى من العيش الكريم للمواطنين.
هذه التحولات المتسارعة خلال الأشهر الثلاثة الماضية عمّقت الفجوة بين طبقة غنية مستفيدة من سياسات التحرير الاقتصادي ونهج الخصخصة، وطبقة الغالبية المفقرة التي زاد فقرها، ووجدت نفسها دون أية حماية اجتماعية.

توليد الإيرادات أم زيادتها؟

لمواجهة هذا الوضع، تحتاج سورية إلى توليد إيرادات جديدة بدلاً من مجرد محاولة زيادة الإيرادات من خلال فرض الضرائب ورفع الدعم والخصخصة، كنهج اقتصادي ممجوج ومستهلك على مدى عقود على إيدي السلطة الساقطة!
وهذا يتطلب التركيز على ما يلي اختصاراً:
تنويع مصادر الدخل عبر دعم قطاعات الإنتاج الحقيقي، الزراعة والصناعة، بدلاً من بيع الأصول العامة.
جذب استثمارات حقيقية تحفز خلق الوظائف، وليس خصخصة المؤسسات الموجودة وتسريح عامليها.
إصلاح النظام الضريبي ليكون أكثر عدالة، بدلاً من تحميل الفقراء أعباء الإصلاح الاقتصادي.
التحفيز الفعلي لقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة لخلق فرص عمل وتعزيز النمو الاقتصادي.

التحدي هو بناء اقتصاد يلبي المصالح الوطنية

إن السياسات الاقتصادية الحالية لحكومة تسيير الأعمال تعكس رؤية قصيرة المدى تركز على زيادة الإيرادات من خلال إنهاء الدعم والخصخصة، دون وضع استراتيجية واضحة لتوليد مصادر دخل جديدة ومستدامة تلبي المصلحة الوطنية.
ومع غياب العدالة الاجتماعية، فإن هذه الإجراءات لن تؤدي إلا إلى مزيد من التوترات، مما يعيق جهود إعادة الإعمار والاستقرار.
وبكل اختصار يمكن القول إن التحدي الحقيقي لسورية ما بعد سلطة الأسد ليس فقط في إعادة بناء الدولة، ولكن في إعادة بناء اقتصاد وطني يعكس مصالح جميع السوريين، وليس فقط مصالح طبقة محدودة من المنتفعين، كما كان عليه الحال!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1217