اقتصاد الظل... حجم كبير وانعكاسات كارثية!
معن الأمير معن الأمير

اقتصاد الظل... حجم كبير وانعكاسات كارثية!

تعاني اقتصادات العالم بمختلف مستوياتها ودرجات تقدمها من ظاهرة اقتصاد الظل بنسب متفاوتة، والتي اعتبرت إحدى أهم المشكلات التي يجب على واضعي السياسات فيها معالجتها والحد منها، وذلك لتأثيرها بمؤشرات الاقتصاد على المستوى الكلي، لهذه الدولة أو تلك.

يتألف اقتصاد الظل من شقين أساسيين:
أولاً: الاقتصاد غير المنظم، أي الأنشطة الاقتصادية المشروعة ولكنها غير مسجلة رسمياً، ولا تدخل في الحسابات القومية الرسمية (كالناتج المحلي الإجمالي مثلاً)، ولا تخضع للالتزامات الضريبية، ولا يحكمها أي معايير أو قيود أخرى مثل تأمين العمال- الحد الأدنى للأجور ... إلخ، بدءاً من بسطات بيع الدخان المبعثرة هنا وهناك، وصولاً إلى المشاريع الصغيرة والمتوسطة وحتى الكبيرة في بعض الأحيان، والتي تعمل بمختلف القطاعات (الصناعية- الزراعية- الخدمية... إلخ).
وثانياً: اقتصاد الجريمة، أي الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، مثل (تجارة المخدرات- عمليات التهريب- السوق السوداء- غسيل الأموال والإتجار بالعملة- الإتجار بالبشر وتجارة الأعضاء.. وغيرها).

مشكلة مزمنة تاريخية!

لا يعد اقتصاد الظل ظاهرة جديدة في سورية، فهي تعاني من وجوده تاريخياً، حيث تزيد نسبته أو تنقص تبعاً لكل مرحلة من المراحل التي مر بها الاقتصاد السوري، والنهج الاقتصادي المتبع خلالها!
فمثلاً تشير إحدى دراسات جمعية العلوم الاقتصادية السورية بعنوان (اقتصاد الظل أو الاقتصاد الخفي– 2006) إلى أن حجم هذا الاقتصاد بلغ 20% في عام 1987.
وفي عام 2005، مع تبني سياسات الانفتاح الاقتصادي والتحول من نموذج التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وبالتالي تراجع دور الدولة في الجانب الاقتصادي– الاجتماعي، بدأت ظاهرة اقتصاد الظل بالتفشي حتى وصلت نسبته إلى حدود 40% من إجمالي الاقتصاد في الأعوام 2006 و2007، وذلك بحسب دراسة محلية لجامعة تشرين بعنوان (اقتصاد الظل، أسبابه، آثاره السلبية وأساليب الحد من حجمه– 2014).
لكن الاستمرار بالنهج الاقتصادي نفسه، وخاصة الإصرار على المضي بمسيرة الإجهاز على دور الدولة الاقتصادي– الاجتماعي، أدى إلى وصول نسب اقتصاد الظل إلى مستويات غير مسبوقة!
فبحسب مقال نشرته صحيفة تشرين بتاريخ 23/10/2024، ووفقاً للدكتور عابد فضلية «إنه من الصعب قياس حجم اقتصاد الظل بشكل دقيق، ولكن التقديرات تفيد بأنه تراوح بين 40 و50% قبل الحرب على سورية، وازداد ليصل إلى 60 – 65% أثناء الحرب».
حقيقة يصعب قياس حجم اقتصاد الظل بشكل دقيق تماماً، فمعظم الأساليب والطرق المعنية بالقياس تأخذ بعين الاعتبار الحدود الدنيا لنتائجها، سواء كانت الطريقة مباشرة عبر إجراء عمليات المسح والتعداد للمنشآت، نظراً لعدم القدرة على إحصاء الأعمال غير المنظمة كافة وعدم إمكانية الوصول إلى الأعمال غير المشروعة، أو من خلال الطرق غير المباشرة بالاعتماد على البيانات الرسمية والفروقات بين الدخل والاستهلاك، أو الفرق بين التحصيلات الضريبية المتوقعة والتحصيلات الضريبية الفعلية، ما يعني أن كل البيانات المتوفرة هي بيانات تقديرية.
ولكن المؤشرات أعلاه توضح، بشكل ما، مسيرة الاتجاه التصاعدي لحجم اقتصاد الظل في الاقتصاد السوري، على الرغم من كل الإجراءات التي أعلنت الحكومات المتعاقبة عن تبنيها للحد منه، بشقيه المشروع غير المنظم عبر تنظيمه، أو اقتصاد الجريمة عبر مكافحته وملاحقة القائمين عليه، إلا أن كلا الشقين في نمو وتزايد مستمر سنة بعد أخرى، ما يعني أن الإجراءات المتخذة رسمياً كانت عاجزة أو غير كافية!

بعض الانعكاسات الكارثية!

نظراً لكون نشاطات اقتصاد الظل لا تخضع للتسجيل الرسمي ولا تُحصر إحصائياً، وبالتالي لا تدرج ضمن الحسابات القومية الرسمية التي تعكس واقع النشاط الاقتصادي، فإن وصول نسبة هذه الأعمال إلى حدود 65% يعني بالضرورة وصول نسبة الخطأ في الحسابات القومية إلى نفس النسبة تقريباً!
فهذه النسبة من الأنشطة الاقتصادية غير الخاضعة للرقابة ولا المتابعة، وغير المعروفة ولا تتوفر أية معلومات عنها، تؤدي إلى تشويه وعدم دقة الحسابات القومية الرسمية، ما يجعل الاعتماد عليها في وضع السياسات الاقتصادية– الاجتماعية المرتكزة على هذه البيانات فاقدة لأهميتها وفعاليتها ومدى ملاءمتها للواقع السوري الحقيقي!
وللتوضيح لا بد من ذكر المثال الآتي:
غالباً ما تستثنى دخول اقتصاد الظل من تقدير الناتج المحلي الإجمالي بسبب صعوبة حصرها، خاصة عند حساب الناتج المحلي بطريقة الدخل، لكنها (أي أنشطة الظل) تولّد دخولاً تُنفق في بعض القطاعات المنظمة رسمياً وتدخل في تبويتاتها. وعلى الرغم من أن المصدر غير معروف، يتم قياس الإنفاق الناتج عنها في الحسابات القومية، ولا سيما الناتج المحلي الإجمالي المحسوب بطريقة الإنفاق، مما يشوّه البيانات ويزيد من نسبة الخطأ في التقديرات والبيانات الرسمية!
إضافة إلى ذلك فإن انتشار هذه الظاهرة بهذا الحجم الكبير يؤثر بشكل مباشر وكارثي على أداء المالية العامة للدولة، حيث تؤدي زيادة حجم أنشطة اقتصاد الظل إلى حرمان المالية العامة من الموارد التي كان من المفترض أن تحصل عليها فيما لو تمت ممارسة هذه الأعمال عبر القنوات الرسمية، وذلك من ناحية الضرائب المباشرة والتأمينات الاجتماعية وغيرها!
فوحدات العمل غير النظامية تعتبر متهربة ضريبياً، وتُشغّل عاملين غير منظمين وغير مسجلين في التأمينات الاجتماعية، مما يحرم الموازنة العامة من كتلة مالية كبيرة جداً، من شأنها أن تدخل في الإنفاق الحكومي لو تم تنظيم هذه الأعمال رسمياً!
ولا يخفى أن تفشي اقتصاد الظل مرتبط بعلاقة مشيمية مع تفشي ظاهرة الفساد، فمهما كانت أنشطة اقتصاد الظل قادرة على التخفي والسرية، فلن تستطيع ممارسة أعمالها والاستمرار بها بعيداً عن أعين بعض الأجهزة الرسمية، كموظفي الضرائب أو الجمارك أو البلديات... إلخ، وبالتالي فهناك علاقة غير مشروعة بين القائمين على هذه الأنشطة الاقتصادية وبين بعض ممثلي الأجهزة الرسمية، تساعد على استمرار هذه الأعمال بطبيعتها غير المنظمة، وأساس هذه العلاقة واستمرارها تقديم الهدايا العينية والرشاوى دورياً، بما يسهل لهذه الأنشطة الاستمرار!

بعض الأسباب والأسّ في المعالجة!

يمكن تلخيص أهم أسباب تفشي ظاهرة اقتصاد الظل (المشروع غير المنظم)، وابتعاد القائمين عليه عن التعامل مع الأجهزة الحكومية، بعدم وجود جدوى اقتصادية من هذا التعامل، وعدم وجود أي محفزات أو أي مميزات تستطيع الدولة تقديمها لهؤلاء في سبيل تنظيم أعمالهم!
فأهم الميزات المفترضة التي تقدمها الدولة من وقود وطاقة تصر الحكومة على عصرها سنة بعد أخرى وصولاً إلى إنهائها كلياً، سواء ناحية رفع أسعارها بشكل متكرر أو ناحية ندرتها وعدم توفرها، بالإضافة إلى عدم وجود تسهيلات إدارية مشجعة كما يفترض!
فما سيتكلّفه هؤلاء من أعباء ضريبية ومالية، غير مجدية اقتصادياً بمقارنة الميزات الممنوحة ولا تتناسب معها، الأمر الذي يجعل من علاقة الفساد المواربة ذات جدوى أعلى من العلاقة المنظمة!
ولعل أحد أوجه المفارقة بهذا الصدد هو الحديث الرسمي عن تشجيع إقامة مشاريع متناهية الصغر والصغيرة، ومساعي تطويرها وطرق تمويلها، في الوقت الذي يستمر فيه العمل بالطرق والأساليب نفسها مع المشاريع والأنشطة القائمة الشبيهة غير المنظمة!
على ذلك فإن البدء بمعالجة هذه الظاهرة لا بد أن يتم انطلاقاً من ترميم العلاقة بين أجهزة الدولة والأنشطة الاقتصادية (المشروعة غير المنظمة)، أي البدء بمعالجة أسباب تفشي هذه الظاهرة، لتنظيمها والاستفادة منها، وليس معالجة نتائجها، كالمطاردة اليومية التي تقوم بها بعض الأجهزة الحكومية عبر التضييق عليها، بغاية زيادة هوامش حصة الفساد ليس إلا!
أما بالنسبة للأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، وخاصة ذات الطبيعة الإجرامية، فلا بدّ من مكافحتها وصولاً إلى القضاء عليها بشكل جدي وفعلي، وذلك لما لها من آثار سلبية وكارثية على الواقع الاقتصادي الاجتماعي، وعلى الاقتصاد الوطني عموماً، بالإضافة إلى محاسبة القائمين عليها والمستفيدين منها، وكل من يساعد في استمرارها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1202