النظام الضريبي المشوّه لا تصلحه آليات الربط الإلكتروني بل تزيده تعقيداً!

النظام الضريبي المشوّه لا تصلحه آليات الربط الإلكتروني بل تزيده تعقيداً!

لا تشكل الضرائب التي تجبيها الدولة من أفراد المجتمع وشركاته وقطاعاته الاقتصادية والخدمية ركناً أساسياً من أركان المالية العامة وحسب، وإنما يأتي النظام الضريبي كأداة أساسية يفترض أن يعتمد عليها جهاز الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية والتقليل من مظاهر الفرز الطبقي، وإعادة توزيع الثروة بين طبقات المجتمع بشكل عادل قدر المستطاع.

فمثلاً بعد تحصيل الدولة للضرائب من المكلفين، تقوم افتراضاً بإعادة صرف هذه الأموال كنفقات عامة يستفيد منها كل أفراد المجتمع بشكل متساوٍ، سواء الإنفاق على الدعم الاجتماعي أو الإنفاق على البنى التحتية، كالماء أو الكهرباء، أو الإنفاق على المشاريع الاستثمارية وغيرها، التي يتساوى في الاستفادة منها أفراد المجتمع ككل بمعزل عن أوضاعهم الطبقية، على الرغم من أن الأغنياء يدفعون أمولاً أكثر من الفقراء على شكل ضرائب، وتحديداً الضرائب المرتبطة بالدخل بحسب ما هو مفترض!

تعقيد النظام الضريبي!

يتصف النظام الضريبي الفعّال بشكل أوّلي بمدى سهولته وبساطته، ودرجة تناسبه للضرورات الواقعية، وبالتالي درجة الثبات النسبية التي يفترض أن يتمتع بها، وأي تعديلات تطرأ عليه لا بد أن يكون مسببها المباشر تغير الظروف والضرورات والأهداف من النظام الضريبي!
ولكن بالنسبة للنظام الضريبي السوري فأبرز ما يعانيه درجة شديدة من التعقيد بسبب هيكليته التي أصبحت منفصلة عن ضرورات الواقع، والمطلوب هو تغيير جذري لهذا النظام بدلاً من الحلول الترقيعية عبر تعديل بعض النصوص القانونية هنا وإلغاء لأخرى هناك، وفي بعض الأحيان يتم تعديل القوانين المعدلة مسبقاً ولعدة مرات!
وما يزيد من تعقيد النظام الضريبي هو تعدد القوانين الضريبية (قانون ضريبة الدخل- قانون ريع العقارات والعَرَصات- قانون البيوع العقارية- قانون رسم الإنفاق الاستهلاكي وغيرها) مع التعديلات المستمرة على هذه القوانين!
هذا الحد من التعقيد المفرط بالنظام الضريبي ونصوصه يجعل من المكلف ضريبياً حائراً وتائهاً بين ما له وما عليه، وقد يحتاج إلى مكتب من المحاسبين القانونيين، ومجموعة من علماء اللغة والمنطق، فقط من أجل فك شيفرات القوانين الضريبة التي تخصه، لكي يكون قادراً على سداد ما يلتزم به ضريبياً!
ويمكن أن نأخذ مثالاً عملياً اتخذته نقابة الأطباء في سبيل فك رموز وشيفرة النص القانوني الخاص بضرائب الأطباء المكلفين!
ففي خطوة غريبة من نوعها، ومن أجل الكشف عن ماهية النص القانوني الضريبي للأطباء، ولكي يصل الأطباء إلى درجة لا بأس بها من فهم التزاماتهم الضريبية، لأنّ الفهم التام والمطلق لهذه القوانين غير ممكن في ظل هذه التعقيدات، توصلت نقابة الأطباء، بعد عدة اجتماعات ذات طابع تفاوضي وتوضيحي مع الهيئة العامة للضرائب والرسوم بهدف التوصل إلى تكليف ضريبي أكثر عدالة وبهدف تحقيق عدالة ضريبية ما أمكن بين المكلفين، بحسب ما جاء على موقع النقابة، توصلت إلى عدة نتائج بهذا الشأن، نوضحها كما يلي بعيداً عن التفاصيل والأرقام التي اضطرت النقابة لعرضها من أجل سبر غور القانون الضريبي:
تختلف نسبة الأرباح الخاضعة للضريبة للطبيب العامل بعيادته المحددة ب 22%عن الطبيب العامل بإحدى المشافي المحددة ب 32% في حالة الربط الإلكتروني، أما في حال عدم الربط الإلكتروني فإن نسبة الأرباح المحددة تصبح 25% للطبيب العامل بعيادته، و35% للطبيب العامل بأحد المشافي، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً أن الأطباء الذين يعملون في المشافي العامة على أساس التفرغ الكامل يخضعون لضرائب مختلفة كلياً، ويخضعون للتكليف بالضريبة على الرواتب والأجور. إضافة الى أنه يضاف إلى قيمة الضريبة المستحقة، رسم الإدارة المحلية بنسبة 1.33% من إجمالي الضريبة المستحقة!

لا يحقق العدالة!

هناك لأي نظام ضريبي في أي دولة وظائف أساسية تبرر وجوده، ومنها الوظائف المالية المرتبطة بجباية المال وتحصيله من المكلفين، إضافة إلى وظائف ذات طابع اقتصادي– اجتماعي لها علاقة بإعادة توظيف هذه الأموال لتحسين الواقع الاستثماري وتحقيق النمو الاقتصادي، وإضافة إلى تحسين الواقع الاجتماعي والمعيشي لعموم الناس وتقليل الهوة أو الفجوة الطبقية بين أفراد المجتمع، أو بعبارة أخرى إعادة توزيع الثروة القومية بشكل عادل نوعاً ما!
لكن النظام الضريبي السوري يأخذ بعين الاعتبار الوظائف المالية فقط، ويضرب بعرض الحائط الجوانب الاقتصادية والاجتماعية المفترضة، وبالتالي تحول النظام الضريبي إلى مجرد أداة لجباية المال من جيوب السوريين، والأسوأ من ذلك الانحياز والمحاباة شبه المطلقة للقطاع الخاص على حساب القطاع العام أولاً، ولأصحاب الأرباح على حساب أصحاب الأجور ثانياً!
فالشركات العامة ملتزمة بدفع الضرائب كما هي وكما نص عليها القانون نظراً لأنه يتم اقتطاعها مباشرةً بغض النظر عن موعد رفدها للخزينة العامة للدولة، على عكس منشآت القطاع الخاص التي تمارس غالبية منشآته التهرب الضريبي، سواء بشكل جزئي في حال كانت منظمة ومسجلة رسمياً من خلال التلاعب ببيانات التكاليف وتضخيمها من أجل تخفيض الأرباح الخاضعة للضريبة، أو من خلال التهرب الكلي، خاصة لتلك المنشآت التي تعمل ضمن دائرة اقتصاد الظل غير المنظم!
وبالنسبة لعدم عدالة هذا النظام وانحيازه إلى أصحاب الأرباح على حساب أصحاب الأجور، فيتضح ذلك بدراسة الهيكلية التي تكون التحصيلات الضريبية بجزئيها المباشرة وغير المباشرة، وبالتالي العبء الضريبي الذي يتحمله كل من أصحاب الأجور والأرباح، ووضحت قاسيون بمادة سابقة بالتفصيل هذا الأمر (النظام الضريبي بين العدالة الاجتماعية والجباية الجائرة، للعدد 1188)، ويمكن التلخيص بأن 70% من الضراب التي تجبيها الدولة يدفعها أصحاب الأجور على الرغم من أن حصتهم من الثروة لا تتجاوز 20%، في حين أن أصحاب الأرباح لا يدفعون إلا 30% من الضرائب بمقابل احتكارهم لما يزيد عن 80% من إجمالي الثروة القومية!

الإصلاح الضريبي!

إن مشاكل النظام الضريبي السوري باتت معروفة لدى الجهات الرسمية وغير الرسمية، فالكل يتناول هذه الموضوعة ويقدم الاقتراحات اللازمة لإصلاح «أو إعادة بناء النظام الضريبي» لكون هذا الأمر أصبح ضرورة ملحة بسبب تبعاتها الكارثية على الواقع المعيشي والخدمي بالدرجة الأولى.
ولا يخفى على أحد أن الحكومات السابقة تناولت هذا الموضوع في أكثر من مرة، والحديث عن توحيد التشريعات الضريبية، ومكافحة التهرب الضريبي، تم تداوله مراراً وتكراراً في السنوات القليلة الماضية، ولكن دون أي إجراءات فعلية وملموسة، واكتفت هذه الحكومات بتشكيل لجان، تجتمع وتقترح وتدرس، من دون أية خطوات فعلية لإصلاح سوء النظام الضريبي المطبّق!
بل الأكثر من ذلك فإن الشيء اللافت الذي تم إجراؤه في هذا الصدد هو مزيد من السوء والتعقيد عبر خطوتين أساسيتين:
الأولى: عبر المزيد من التعديلات، وخاصة منح الإعفاءات الضريبية والجمركية للاستثمارات بمختلف قطاعتها، والتي تصل أحياناً نسبة الإعفاءات فيها إلى 25% و50% وحتى 100%، وبالتالي مزيد من التضحية بموارد الدولة ومزيد من الانحياز لصالح أصحاب الأرباح على حساب أصحاب الأجور.
الثانية: مسألة بدعة الأتمتة والربط الإلكتروني للأشخاص والشركات المكلفين، على اعتبار أن هذه الخطوة ستساعد بحل جميع مشاكل وسلبيات النظام الضريبي، إلا أنه لا يمكن حل المشاكل المتجذرة عبر تحويل شكلي فقط بتقنية التحصيل الضريبي، من تقليدية إلى إلكترونية، مع بقاء التشوّه في البنية والهيكلية للنظام الضريبي على حاله!
ما يعني أن الأساس الجوهري للتخلص من سوء النظام الضريبي هو إجراء تغييرات جذرية وبنيوية بهذا النظام وصولاً إلى توحيده مع تبسيط إجراءاته، فالربط الإلكتروني على هذه القاعدة المشوهة من القوانين لا يعني حل المشكلة، وإنما تحويلها من مشكلة تقليدية إلى مشكلة ذات طابع إلكتروني وحداثي، وبالتالي مزيد من التعقيد والتشوه، ومزيد من الانحياز الطبقي وتحميل المفقرين الحصة الأكبر من العبء الضريبي!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1202
آخر تعديل على الجمعة, 29 تشرين2/نوفمبر 2024 19:51