الدروس الخصوصية... بورصة فوضوية فرضتها الضرورات الشاذة!
مع اقتراب موعد الامتحانات النهائية في كل عام دراسي ينشط موسم الدروس الخصوصية والمكثفات كالعادة، لتبدأ معه معاناة الطلاب وذويهم جرّاء الأعباء المالية الكبيرة المترتبة على أسعار تلك الدروس، والتي وصلت في الآونة الأخيرة إلى أرقام خيالية!
فمن وجهة نظر الطلاب وذويهم تكمن المشكلة الأكبر بالعبء المادي الذي يتكبدونه لتغطية تكاليف الدروس الخصوصية والمعاهد الخاصة، أما الأزمة الكبرى فهي بالأسباب التي دفعت الأسرة نحو الدروس الخصوصية لتعويض الفاقد العلمي لأبنائها، والأسباب التي دفعت المعلّمين لامتهان التعليم، وتحويله من مهمة إنسانية عظيمة إلى مهنة تَعيّشٍ وتَكسّب!
وهذه وتلك من شذوذات أصبحت ضرورات فرضتها السياسات الحكومية المجحفة، والسياسات التعليمية التفريطية واللا مسؤولة، التي أودت بالقطاع التعليمي نحو المزيد من التراجع والتدهور والترهل!
طالب علم أم زبون؟!
فقدت التلمذة في مرحلة التعليم الأساسي غايتها وأهدافها لتأهيل ونقل التلميذ إلى مرحلة طالب العلم، وفي مراحل التعليم التالية فقد طالب العلم ممكنات ومشجعات استكماله العملية التعليمية!
فقد تم تكريس الدروس الخصوصية خلال السنوات الماضية كسوق وبورصة، بلا رقابة ولا ضوابط، تحكمها حاجة التلميذ والطالب لترميم الفجوة العلمية في بعض المواد لزيادة كفاءته تمهيداً للتقدم للامتحانات وتجاوزها، وحاجة المعلم إلى دخل إضافي يكفيه شرور العوز هو وأسرته، كما تتحكم بها الأطماع الاستغلالية المرتبطة بهذه الحاجات والاحتياجات!
تراوحت التكلفة الوسطية للدروس الخصوصية في العام الماضي ما بين 10-25 ألف ليرة/ساعة، حسب بعض الطلاب وأسرهم!
وقد ارتفعت تكلفة الدروس الخصوصية هذا العام بنسبة 100-150٪ بالمقارنة مع العام الفائت، حيث بلغت ساعة درس مادة الفيزياء أو الكيمياء 40 ألف بحدها الأدنى، أما ساعة درس الرياضيات فعادلت 50 ألف، وبالنسبة للغة العربية تراوحت بين 30-50 ألف حسب المرحلة، في حين سجلت اللغات الأجنبية 30-50 ألف للساعة الواحدة!
مع الإشارة إلى أن الأسعار أعلاه هي الحد الأدنى، فهي تختلف حسب المرحلة التعليمية، وسمعة وكفاءة المعلم، والمنطقة، وبحال كان الدرس في بيت ذوي الطالب أو في منزل المعلم، وكذلك ترتفع الأسعار مع اقتراب الامتحانات!
أما ما يطلق عليها «مكثّفات»- المراجعة النهائية للمنهاج- فلها حسبة وتكاليف وأسعار أخرى في المعاهد الخاصة التي تقيمها!
إذ تجاوزت تكلفة دورة المكثفات لبعض المواد كالرياضيات المليون ليرة سورية، ولتتراوح تكلفة باقي المقررات ما بين 600-900 ألف ليرة، بحسب المعهد والمنطقة وعدد الساعات!
ووفقاً لبورصة أسعار الدروس الخصوصية الحالية فإن رب الأسرة يحتاج إلى 500 ألف ليرة شهرياً بالحد الأدنى لتغطية تكلفة درس خصوصي واحد أسبوعياً لاثنين من أبنائه الطلاب فقط، وهذا طبعاً لا يتناسب مع دخل الأسرة المحدود والقليل، ويشكل عامل ضغط حقيقي على مستوى معيشتها!
وقد دخل الدرس الخصوصي كسلعة خدمية بوابات «المفاصلة» على سعره، مع سمعة المعلم وكفاءته بل وكرامته أحياناً، في ميزانها، بين المعلم «مقدم الخدمة» وذوي الطالب «الزبون»، أما المكثفات فلا مفاصلة فيها مع المعهد الذي يعلن عنها، والنتيجة أن طلب العلم بحد ذاته فقد مضمونه وغايته في هذه السوق!
وزارة التربية ودورها التسووي لمصلحة الاستثمار الخاص!
تتحمل الجهات المعنية كامل المسؤولية عن استفحال وباء ظاهرة الدروس الخصوصية وبورصتها!
فوزارة التربية، بالإضافة إلى تقليص وتراجع دورها ومهامها في المدارس الرسمية، لا تريد إيجاد حلول لمشكلة الدروس الخصوصية، فهي تارة تنكر وجودها على نطاق واسع، وتارة أخرى تؤكد أن المعلمين يمارسون مهامهم بالشكل المطلوب، وبالتالي فإن الطلاب المجدّين لا يحتاجون إلى الدروس الخصوصية، وتارة تعلن إشرافها «وللمرة الأولى» على المعاهد الخاصة!
حيث كشف مدير التعليم الخاص في وزارة التربية راغب الجدي، بحسب صحيفة الوطن بتاريخ 16/4/2024، أن: هذه هي المرة الأولى التي تشرف فيها وزارة التربية على عمل المعاهد الخاصة المرخصة، موضحاً أنها ارتأت هذا العام أن يكون هناك ضبط لعمل هذه المعاهد وفق أجور تعليمية محددة حتى لا تتجاوز الأقساط التعليمية الممنوحة لأصحاب المدارس التعليمية الخاصة. وأضاف: أنه سابقاً كانت وزارة التربية لا تتدخل بأقساط هذه المعاهد، ولكن نظراً لارتفاع أجورها، تم هذا العام تنسيق الدورات التعليمية بين مركز المدينة ومركز المحافظة، وتتراوح الأجور بين مليون ونصف إلى مليونين للفرع العلمي، ومليون و300 ألف إلى مليون و700 ألف للفرع الأدبي، وأيضاً تم تحديد أجور الصف التاسع بين 700 ألف إلى مليون، وذلك ما بين الريف والمدينة تحقيقاً للعدالة، وفيما يتعلّق بالمعاهد غير المرخصة، قال: لا تعمل هذه المعاهد وفق سياسة وزارة التربية، بالتالي هي مخالفة للمرسوم 55 عام 2004 وتعليماته التنفيذية الناظمة لعمل المعاهد الخاصة وبالتالي تغلق عن طريق لجان الضابطة العدلية في المحافظة وتستوفى العقوبة المالية لمصلحة الخزينة العامة، وكشف عن تحديثات مهمة جداً في الأنظمة والقوانين التعليمية في الأيام القادمة، ومنها تسهيلات لعمل المدرسين في المدارس الخاصة.
فالجهات الرسمية تتملص من مسؤولياتها تجاه القطاع التعليمي تباعاً، بل وتدفع به نحو المزيد من الترهل والتدهور عبر شرعنة ظواهر كانت تعتبر مخالفة حتى وقت قريب تحت مسمى الإشراف والرقابة والتسهيلات!
ومع ذلك فإن الغاية من التدخل الرسمي المعلن عنه أعلاه ليس بغاية الحفاظ على جودة العملية التعليمية أو مصلحة الطلاب، بل جوهر الأمر على ما يبدو هو إيجاد صيغة تسووية مقبولة للتنافس بين المعاهد والمدارس الخاصة، ولمصلحة مستثمريها ليس إلا!
على الطرف المقابل فإن الحديث عن «تسهيلات لعمل المدرسين في المدارس الخاصة» لا يصب إلا في خانة الاعتراف المباشر بضعف أجر المدرسين، مع تغييب المسؤولية الرسمية عن ذلك!
الطالب والمعلم ضحية السياسات المجحفة وغير المسؤولة!
تنامي واستفحال ظاهرة الدروس الخصوصية والمعاهد الخاصة، لتصبح ضرورة كسوق وبورصة، تتمحور مسبباتها بشكل أساسي حول السياسات الحكومية التي دفعت بالمنظومة التعليمة إلى الهاوية، بدءاً من سياسات خفض الإنفاق العام التي انعكست سلباً على القطاع التعليمي الرسمي، مروراً بالخصخصة وتعزيز انتشارها وتوسعها، وليس انتهاءً بالسياسات الأجرية!
فالتلميذ والطالب والمعلم كانوا ضحايا وقرابين السياسات التعليمية بشكل خاص، والسياسات الحكومية بشكل عام!
فلا تعليم بدون معلم كفء قادر على العطاء، وبدون طالب علم يعي أهمية وضرورة العلم والتعلم، وبدون أدوات ووسائل مساعدة لاستكمال ونجاح العملية التعليمية بغايتها وأهدافها!
حيث أصبحت المدارس عاجزة عن توفير أهم مستلزمات العملية التعليمية فيها، كوسائل الإيضاح والقرطاسية وبقية الاحتياجات الشبيهة، إضافة إلى التجهيزات العلمية والعملية والتقنية، وإلى جانب ذلك تفتقر معظم القاعات الدراسية إلى الإنارة الجيدة والتدفئة والتهوية، وشروط الراحة النفسية التي يحتاجها الطلاب، إضافة إلى الاكتظاظ الشديد في القاعات الدراسية!
كذلك أثرت العطل الرسمية الطويلة التي شهدناها خلال الأعوام الماضية، بغض النظر عن مبرراتها، على حسن استكمال المناهج الدراسية، هذا في حال استكملت، فالكثير من المدارس كانت عاجزة عن استكمال المناهج، وخاصة لطلاب الشهادات (الإعدادية والثانوية)!
أما ما يتعلق بقرارات وزارة التربية خلال الأعوام السابقة، أي خلال فترة استفحال الظاهرة، فقد اتسمت بالعشوائية والتخبط، كقرارات تعديل المناهج المستمرة، التي لم تحقق الفائدة المرجوة منها للطالب والتطوير النوعي الذي تحتاجه منظومة العملية التعليمية، لتأتي أيضاً قرارات أتمتة الامتحانات وإلغاؤها، أو تقليص مدة امتحانات الشهادات وتقريب مواعيدها... إلخ!
كذلك كان لوزارة التعليم العالي دور كبير في تكريس بورصة الدروس الخصوصية، لأن معيار دخول الجامعات عبر سياسات القبول الجامعي، من خلال آليات المفاضلة العامة المتبعة، يتوقف على العلامات المحققة بنتيجة امتحان الثانوية العامة فقط، وهذا المعيار غير صحيح وغير كافٍ في ظل واقع الترهل والتراجع في العملية التعليمية في المرحلة ما قبل الجامعية!
ليس هذا وحسب بل الأسوأ من ذلك كله هو السياسات الأجرية المجحفة التي أوصلت المعلمين إلى حدود الجوع، كحال كل أصحاب الأجور، والتي لا تتناسب مع ارتفاعات أسعار الأساسيات الضرورية من غذاء ولباس وغيرها!
فكيف يمكن للمعلم، الذي أنهكه التفكير بتأمين مستلزمات الشهر من خبز وغذاء ودواء، أن يقف بكامل قواه وذهنه ليقدم المعرفة لطلابه في الصف، إضافة إلى المهام الموكلة إليه من وضع أسئلة وتصحيح ومحصلات وسجلات و...؟!
فالمعلم مستنزف في الوقت والجهد حتى الرمق الأخير، لقاء أجرٍ زهيد لا يتناسب مع جهده وتعبه من جهة، ولا يتوافق مع ضروراته المعيشة من جهة أخرى!
ومن الطبيعي بعد هذا الإجحاف الكبير بحق المعلمين أن يبحث هؤلاء عن عمل آخر لتأمين مصدر دخل إضافي يساعدهم في تأمين متطلبات الحياة اليومية في ظل الظروف الاقتصادية المتردية، بما في ذلك طبعاً اللجوء إلى الدروس الخصوصية، حتى أن بعضهم عزفوا عن التدريس في المدارس الرسمية، وتوجهوا نحو المدارس والمعاهد الخاصة، أو تفرغوا كلياً للدروس الخصوصية!
ومما لا شك فيه أن كل ما سبق يؤثر سلباً على أداء المعلمين الذين يبقون طوال الدرس في حالة من الضغط والتوتر، كما يؤثَّر على مستويات فهم الطالب وإدراكه، ويعرقل عملية إيصال المعلومات إليه بيسر وسهولة، والنتيجة هي مزيد من التراجع في العملية التعليمية، وذلك في المدارس الرسمية والخاصة على السواء، كمدخلات ومخرجات وغايات وأهداف، وفي المرحلة الجامعية كذلك، وصولاً إلى مرحلة الدراسات العليا أيضاً!
فهل التساؤل عن مجانية التعليم، بعد كل ما سبق، يعتبر مشروعاً وفي مكانه!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1171