حرب، جوع، فقر.. وحكايا حبيسة جدران عيادات الأمراض النسائية السورية
فاطمة عمراني فاطمة عمراني

حرب، جوع، فقر.. وحكايا حبيسة جدران عيادات الأمراض النسائية السورية

كانت سلام الحلبي قاب قوسين أو أدنى من الموت، لكنها عاشت وحكت لنا الحكاية!

في يومٍ ما من عام 2014، كانت سلام حيث تحب دائماً أن تكون، لطالما شوهدت في ركنها المعتاد من مطبخ منزلها في دوما، ففي هذا الوقت عادةً ما تكون منهمكة بإعداد وجبة الغداء قبل أن يأتي موعد عودة زوجها.
لكن بلحظة واحدة تتذكر سلام تفاصيلها بصعوبة تغير كل شيء.. فقدت زوجها، صحتها، وما تبقى من أملها بأن تصبح أماً!
تجلس سلام اليوم لتقصّ حكايتها، تمسك ما تبقى من ذاكرتها بيدين مرتعشتين، ووجه شاحب مصفر يغص بالدموع، وفم يختنق بالكلمات:
«يوم اللي زوجي مات، آخر شي بتذكره إني غبت عن الوعي صحيت بعدها بين ناس ما بعرفهم، رجعت على بيتي لقيت البيت على الأرض، ومن وقتها بلشت رحلة العذاب»
ما زالت سلام صبية في منتصف الثلاثينات من عمرها وما زال جمالها بادياً، جل أسنانها في فمها، مع بعض الشعر على رأسها.. لا تعاني أي أمراض جدّية عدا سوء التغذية وفقر الدم.. وبطبيعة الحال ما زالت تأمل أن تعيش طويلاً ربما عشر سنوات أو حتى عشرين، وأن تتزوج مرةً ثانية وتنجب أطفالاً. لكن لو سألها أحد عن أحلامها فلن تحتاج ثانيةً للتفكير، ستجيب دون تردد: «صير أم»
كانت الأمومة كل ما رغبت به من هذا العالم قبل أن تصفعها الطبيبة بالواقع: «تعانين من انقطاع طمث باكر، ولن تتمكني من أن تصبحي أماً أبداً»
تعاني سلام من انقطاع طمث باكر نسف كل آمالها بأن تسمع كلمة «ماما» يوماً ما، ويبدو أنها ليست وحدها من ستحرم من هذه الكلمة باكراً!

انخفاض متوسط سن انقطاع الطمث لدون الـ 40 عاماً

تبين طبيبة الأمراض النسائية، د. نادين الورار، في حديثها لـ «قاسيون» أن الحرب أثرت بشكل واضح على متوسط سن انقطاع الطمث للسيدات السوريات، خصوصاً المتواجدات في مناطق الصراع العسكري الأكثر حدّة.
وتقول د. الورار: متوسط انقطاع الطمث الطبيعي من 51 - 52 عاماً (وهو السن الطبيعي لانقطاع طمث السيدات في منطقة حوض المتوسط)، ولكن اليوم أرى تزايداً ملحوظاً في عدد المريضات اللواتي يعانين من انقطاع طمث باكر في سورية، وعندما نقول انقطاع طمث باكر فهذا يعني غياب الدورة الشهرية للسيدة قبل سن 40 عاماً.
تتابع الورار: برغم عدم وجود دراسات علمية وإحصائيات وأرقام دقيقة عن هذا الأمر، لكن المتهم الأول لمسببات انخفاض متوسط سن انقطاع الطمث هو حالة سوء التغذية التي تعرضت لها السيدة في الأماكن التي شهدت صراعاً ومواجهات عسكرية والتي تسببت بنقص الوزن الشديد الذي يلعب دوراً أساسياً في هذا الأمر، أيضاً هناك سبب رئيسي آخر هو التعرض لمواد غير معروفة المصدر (كيماوية أو شعاعية) تؤثر على عمل المبيضين وبالتالي تسبب قصوراً مبكراً بالمبيض المبكر، كما تؤثر الاضطرابات النفسية التي تعرضت لها السيدات على عمل الغدد الصم في الجسم وخاصة الغدة النخامية، وبالتالي عمل المبيضين.

الزواج المبكر وحمل المراهقات

تشير آخر التقديرات الدولية بحسب دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 60 مليون امرأة من الفئة العمرية ما بين 20 - 24 عاماً حول العالم تزوجن قبل بلوغ سن 18 عاماً.
تطابق د. الورار هذه الدراسة مع ملاحظاتها اليومية عن المريضات اللواتي تعاينهنّ في عيادتيها في منطقة دوما، ومنطقة السيدة زينب في العاصمة دمشق، مشيرةً إلى أنها تلحظ ازدياداً في نسبة زواج القاصرات وحمل المراهقات.
«تدفع الظروف المعيشية الصعبة التي يمر بها المجتمع السوري إلى ازدياد معدل نسبة زواج القاصرات لكثير من الأسباب كالجوع والفقر الذي يعمد فيه رب الأسرة لتزويج ابنته بعمر مبكر لتخفيف تكاليف مصروفها، يسهم الجهل الاجتماعي وتردي المستوى التثقيفي للأفراد والمصاحب لتأثيرات الحرب المجتمعية أيضاً بجزء كبير من تكريس صحة مفهوم الزواج المبكر، بالإضافة إلى التسرب الدراسي وعدم تنمية المهارات المهنية للفتيات بسبب تدني المدخول لرب الأسرة الذي يمنعه من التكفل بتكاليف التعليم والتدريب»، بحسب ما تقول أخصائية الأمراض النسائية والتوليد.
وتبين الورار أن الزواج المبكر والسعي إلى إثبات الخصوبة ونقص المعرفة الجنسية والمهارات اللازمة لتنظيم الأسرة واستخدام وسائل منع الحمل يسبب في تعريض القاصرات لمخاطر الحمل الباكر، وفي دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية تؤكد أن مضاعفات الحمل والولادة المبكرة هي السبب الرئيسي لوفاة النساء بين الفئة العمرية 15 - 19 سنة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
وتتابع: يشكل حمل المراهقات خطراً على الطفل أيضاً كحالات الإملاص أي (موت الجنين بعد 28 أسبوعاً من الحمل، أو قبل الولادة أو أثناءها)، كما أن معدلات الولادة قبل اكتمال مدة الحمل وانخفاض الوزن عند الميلاد والاختناق أعلى بين الرضع الذين تلدهم مراهقات؛ وتزيد كل هذه الحالات من احتمالات وفاة الرضيع أو إصابته بمشكلات صحية في المستقبل.
يمكن أن يؤدي الحمل في سن المراهقة إلى عواقب وخيمة، لاسيما بالنسبة للفتيات غير المتزوجات. فالتخلي عن الدراسة وما ينجم عنه من انخفاض المستوى التعليمي من الأمور التي لا تعيق التطور الشخصي فحسب، بل تحد كذلك من مكاسب المرأة مدى الحياة، وبالتالي، تحد من مساهمتها في النمو الاقتصادي».

تأثير الوضع الاقتصادي السيء على الحامل

تلعب الظروف المعيشية السيئة وما تعكسه من قلة الوارد الغذائي ونوعيته للمرأة الحامل دوراً هاماً في نقص وزن الأم أي نقص كسبها للوزن خلال الحمل.
توضح د. الورار: «نقص التغذية سيسبب مشكلات صحية خطيرة للحامل كفقر الدم، وعوز في الحديد الذي تحتاجه بشكل أكبر خلال فترة الحمل، التعرض لاختلاطات الحمل كالنزوف أثناء الحمل، انفكاك المشيمة، الولادة الباكرة، حالات تهديد الإسقاط ببدايات الحمل، مشكلات ارتفاع الضغط الشرياني خلال الحمل، كل هذه الأمور تلعب دوراً في نقص الوارد الغذائي الكافي للمرأة الحامل».
من ناحية أخرى، ينعكس سوء تغذية الحامل على الجنين أيضاً، ما يؤثر على تروية المشيمة وبالتالي سيسبب نقصاً في وزن الجنين، وقد يسبب أيضاً ولادة باكرة أو قد يسبب حالات إملاص وموت الجنين.
في مرحلة ما بعد الولادة أيضاً سوف يتأثر الوليد بنقص التطور المعرفي، ونسبة الذكاء عند حديث الولادة، نقص الكلس، نقص الحديد، نقص في التطور الروحي الحركي عند الطفل.
خلال فترة الإرضاع، أيضاً يؤدي سوء الوارد الغذائي للأم إلى إضعاف مناعة الطفل وبالتالي يتأثر الجهاز المناعي ويصبح ضعيفاً ويتعرض بشكل أكبر للأمراض.
كالكثيرات في هذه المدينة، تجلس سلام اليوم على كرسي الانتظار في عيادة الأمراض النسائية، تستنشق الهواء وتزفره بدفعات قصيرة، تلتفت بفرح حين تسمع كلمة «ماما» من أي طفل ينادي أمه، تمعن النظر ملياً في هذا الطفل قبل أن تخنقها العبرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1161
آخر تعديل على الأربعاء, 14 شباط/فبراير 2024 10:37