ماذا بقي في السلة الغذائية للغالبية المفقرة في ظل استمرار سياسات الإفقار والتجويع؟!
تستمر موجات الغلاء والارتفاعات السعرية التي طالت كل السلع الغذائية، وجميع المواد الأساسية وغير الأساسية، بالتوازي مع تعاطي المواطنين من الغالبية المفقرة معها بالمزيد من التقشف والتقتير وشد الأحزمة!
فماذا بقي في السلة الغذائية للغالبية المفقرة؟؟
فالسوق منفلت استغلالاً ونهباً، ولا تغطي موبقاته ذرائع العقوبات والحصار ومتغيرات سعر الصرف، أو غيرها من المبررات، والحكومة والرسميون غير مكترثين، مع تكريس سياسات الإفقار والتجويع والتهميش بكل إصرار!
الأسواق تغص بالمتفرجين والموائد تزداد تقشفاً!
باتت الأسرة السورية بحاجة إلى موازنة أسبوعية لشراء النواشف الخاصة بالإفطار والعشاء، لا تقل عن 100 ألف ليرة سورية مع التقنين واعتماداً على الأنواع المتوسطة منها!
حيث وصل سعر كيلو اللبنة البلدية إلى40 ألف ليرة، والجبنة المشللة إلى ما يعادل 65 ألف ليرة أما البقرية بين 40 ل 50 ألف ليرة، والمسبحة بـ25 ألف للكيلو، والمرتديلا الوسط بين 12 ل 15 ألف ليرة!
وتعتبر الأجبان والألبان الأكثر تأثيراً على وجبة الإفطار، فقد اعتاد السوريون سابقاً على تموينها، أما الآن وفي ضوء هذه الأسعار سيعتاد السوريون على توديعها مستقبلاً!
وما يؤكد ذلك هو حديث رئيس الجمعية الحرفية للألبان والأجبان بدمشق لموقع «غلوبال» والذي توقع فيه ارتفاع أسعار مشتقات الحليب متأثرة بسعر كيلو الحليب الذي وصل إلى 8000 ليرة سورية. وأشار أيضاً إلى انتشار الطبقية في استهلاك مشتقات الألبان والأجبان، قائلاً، «المستهلكون انقسموا إلى شريحتين فقط، وانعدمت الطبقة الوسطى بينهما، فإما زبون يشتري بكميات كبيرة 2-3 كيلو لكل صنف من الألبان والأجبان، أو مستهلك من فئة الموظفين يشتري كميات قليلة جداً تكفي حاجته اليومية، ما أدى إلى تراجع معدلات الاستهلاك بشكل كبير”!
ونتيجة ارتفاع أسعار «النواشف»، انتشرت في الأسواق أنواع مغشوشة منها ولكنها رخيصة، حيث باتت السبيل لكثير من الأسر المُعدمة غير القادرة على تأمين غذائها اليومي!
بمقابل ذلك يقتصر دور وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بالتحذير منها، في حين أنها تصدر نشرات تموينية تجاري أسعار السوق في ارتفاعها، وتدفع المُفقرين نحو المواد الغذائية الأقل جودة!
هذا الواقع الإفقاري للغالبية دفع أيضاً العديد من المتاجر لفتح تنكات السمنة وعلب الحلاوة (التي كانت تشتريها الأسرة مختومة سابقاً) لبيعها بالوقية والكيلو للمفقرين، كحال الجبنة والزيت!
أرجل الدجاج للبيع والاستهلاك!
أغلب العائلات استبعدت اللحوم من موائدها، بل وباتت ارستقراطيةً تلك التي أبقت على وجبة لحم واحدة في الشهر، تترافق وأوله «حلوانة الراتب»!
لكن مؤخراً حتى هذه الشريحة بدأت تتقلص مع بلوغ سعر لحم الغنم الهبرة 180 لـ 190 ألف ليرة للكيلو الواحد، وكيلو لحم العجل 150 إلى170 ألف ليرة!
حتى الدجاج الذي كان الخيار الثاني للأسر تجاوز ٧٣ ألف ليرة لكيلو الشرحات، ما دفع بعض اللحامين لبيع أجزاء من الدجاجة لم تكن مطلوبة سابقاً للاستهلاك بسعر يتراوح بين 8 – 10 آلاف للكيلو، كالرأس مع الرقبة والعمود الفقري والمؤخرة، وحتى القوانص بلغت 11 ألف وغير منظفة!
وعند حديثنا مع بائعي الفروج أكدوا إقبال العديد من المواطنين على شراء أرجل الدجاج للاستهلاك أيضاً، هذا الجزء من الفروج الذي كان يباع لمربي الحيوانات الأليفة!
فالسوريون الذين استبدلوا سابقاً لحوم الأغنام والعجول بالدجاج لرخصه، استبعدوا اليوم هذا الصنف أيضاً بعد أن وصلت أسعاره إلى مستويات غير مسبوقة، تفوق قدرة الأسرة ذات الدخل المحدود!
بل إن مصادر البروتين النباتية، والتي تعتبر أرخص المصادر، لم تعد يسيرة التناول بالنسبة للأسرة، فأقل مصدر للبروتين النباتي كلفته اليوم 10 آلاف ليرة (عدس- فول أو حمص)!
في ضوء هذا كله أعلنت العديد من الأسر عجزها عن تأمين البروتين حتى من هذه المصادر، ما يهدد النظام الغذائي الخاص بها، وخاصة الصغار!
الخضار تحلق في السماء ولا علاقة للمواسم بالأسعار!
يتساءل العديد من السوريين عن سبب الارتفاع اليومي لأسعار الخضار في مواسمها، حيث باتت السبيل الوحيد لملئ البطون الجائعة!؟
فالسياسة الجديدة التي تتبعها الأسر السورية المفقرة نستطيع تلخيصها بـ»شو الرخيض جيب وكول حسب الموسم”، لكن الأسواق تفاجئنا دوماً بالجديد السعري المرتفع!
إذ بلغ سعر كيلو البطاطا 7000 ليرة و3500 للبندورة، أما الخيار 8000 ليرة، والكوسا والباذنجان 6500 ليرة، وكيلو الزهرة 6 آلاف ليرة، أما الثوم 20 ألف ليرة، والفاصولياء 18 ألفاً والحب منها بلغ 30 ألفاً، حتى الخسة 3500 ليرة، أي إن تكلفة أي طبخة مشبعة لأسرة لن تقل عن 75 ألف ليرة، من دون بروتين طبعاً!
حتى المشروبات هي الأخرى ارتدت عباءة اللحوم والخضراوات، فالقهوة مثلاً أنيسة الجلسات ورفيقة الصباح والمساء تجاوزت أسعارها 100 ألف للكيلو، والمتة تبدأ أسعارها من 14 ألف ليرة، وكيلو السكر 14 ألف ليرة!
أما عن فكرة البركة وتعداد أصناف الحلويات والبزورات والتسالي في الزيارات والمجالس، تلك التي كانت عادات عند السوريين، فقد تراجعت على مر السّنوات لتتلاشى، حتى أصبحت اليوم حكراً على فئة من ميسوري الحال، في ظل الهوّة الشاسعة بين الدخل والأسعار، وكل هذا وسط عجز حكومي وتخبط مستمر وسياسات ظالمة ومجحفة بحق الغالبية من السوريين!
تقارير دولية عن سوء التغذية والأمراض!
الواقع الكارثي الذي تعيشه الغالبية المفقرة، لم يغب عن التقارير الدولية، مع العلم أن الواقع أكثر قتامة وبؤساً من أي تقرير تكثيفي مدعم بالأرقام يمكن أن تعده أية منظمة دولية!
فقد دق برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة بداية العام، ناقوس الخطر في بيان له أكد فيه أن 70% من السوريين ربما لا يتمكنون في المدى المنظور من توفير الطعام لعائلاتهم، علماً أن أسعار الغذائيات كانت حينها أقل بأكثر من 200% عما هي عليه اليوم!
كما وأفاد تقرير لبرنامج الأغذية العالمي نشر في 15 آذار من العام الحالي بأن نحو 55% من سكان سورية يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأن نحو ثلاثة ملايين آخرين معرضون لخطر الوقوع في براثن الجوع!
وقد صرحت كورين فلايشر المديرة الإقليمية للبرنامج في الشرق الأوسط لرويترز إن «الوضع أسوأ من أي وقت مضى في سورية». وأضافت فلايشر «نحن قلقون للغاية بسبب ارتفاع الجوع بشكل حاد في سورية”!
وتظهر البيانات أن سوء التغذية آخذ في الارتفاع، وأن معدلات تخلف النمو وسوء التغذية لدى الأمهات وصلت إلى مستويات غير مسبوقة!
ووفقاً للتقديرات العالمية فإن أكثر من 600 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون من التقزّم في سورية. وينجم التقزم عن نقص التغذية المزمن ويسبب أضراراً بدنية وعقلية للأطفال لا يمكن التعافي منها. ويؤثر ذلك على قدرتهم على التعلم وإنتاجيتهم في مرحلة البلوغ!
طبعاً مثل هذه التقارير تمر عبر وسائل الإعلام دون أي اكتراث حكومي بها، باستثناء مساعي استثمارها في بعض الأحيان من أجل الحصول على بعض المساعدات من قبل المنظمات الدولية، والتي لا تصل إلى مستحقيها بالنتيجة!
«بيضة & كاسة حليب» من المنسيات.. و«لانش بوكس» فارغ!
الأقسى من كل ما سبق أن كل الأسر المفقرة أوقفت حصة الطفل المفترضة صحياً من البيض اليومي وكأس الحليب صباحاً قبل الذهاب إلى المدرسة منذ زمن طويل!
فقد بات هذا النمط الغذائي نوعاً من الترف، وخاصة عندما تجاوزت البيضة سعر 2200 ليرة وظرف الحليب 2500 ليرة، فمن ذا الذي يقدر على دفع ما يعادل 5000 للطفل مع فجر كل يوم، خاصةً أن الطفل بحاجة إلى سندويشة للمدرسة مع خرجية، ثم وجبة غداء وعشاء في المنزل، مما دفع العديد من الأسر لتحويل البيض من حصة يومية إلى أسبوعية كي لا يحرموا أطفالهم من مصدر مهم للبروتين بشكل نهائي!
ليس هذا وحسب بل طالت خطة التقشف الخرجية، هذا التقليد المقدس الذي لا يمكن المساس به والمتعارف عليه قبل الذهاب إلى المدرسة، وعادة يكون المبلغ كافياً لشراء ما يشتهيه الطفل في المدرسة أو خارجها، فقد حرم منها اليوم الكثير من الأطفال مع وصول أسعار مأكولات الأطفال لما يعادل 4000 ليرة للبسكويت المقبول، في حين يصل سعر كيس الشيبس متوسط النوعية إلى 5000 ليرة!
ففي ضوء هذه الأسعار ما هو مبلغ الخرجية الذي من المفترض أن يمنح للطفل، مع راتب والده المعدوم سلفاً!
فمَن من ذوي الدخل المحدود يستطيع إسعاد طفله بخرجية، في حين بات تأمين وجبة الإفطار عبئاً على أغلبية الأسر المفقرة خاصةً في موسم المدارس، التي تتطلب وجبات إضافية ترسل مع الطلاب؟!
فشراء ما نسميه «النواشف» بات مرهقاً للجيوب، حتى سندويشة الزعتر باتت مكلفة جداً، والتي كانت تعتبر من أرخص الوجبات المدرسية، حيث وصل سعر لتر زيت الزيتون إلى 80 ألف ليرة وكيلو الزعتر الى 40 ألف ليرة، ما دفع بعض الأمهات لتخفيض مخصصات الطفل لسندويشة صغيرة، مع إلغاء كل أنواع الفواكه طبعاً، باعتباره إنفاقاً كبيراً فوق طاقة الأسرة على تأمينه، في حين ترسل أسر أخرى أطفالها خاوية الجيوب والبطون، لعجزها أمام غلاء الأسعار ومحدودية الدخل!
على ذلك فإن الحديث عن معدلات سوء التغذية وعن تزايد القزامة وتفشي الأمراض، وخاصة بين الأطفال، قد تجاوزها الواقع بأشواط!
تمييز طبقي وظواهر شاذة!
هذا الواقع الصعب الذي يعيشه الأطفال وفُرض عليهم في ظل حرمانهم من حقوقهم ومما يشتهونه، وبغض النظر عن مساوئ الانعكاسات الصحية عليهم بسبب سوء التغذية، أظهر للعلن التفاوت الطبقي بين الأطفال في المدارس!
فبالإضافة إلى جرح مشاعر الأطفال المفقرين وانكسارهم أمام أقرانهم من الميسورين، فقد بدأت تنتشر بعض الظواهر السلبية في المدارس بشكل أكبر، اعتباراً من تزايد العدوانية وصولاً إلى السرقات، سواء للقرطاسية أو حتى الطعام!
فالتفاحة أو البرتقالة والموزة، وحتى السندويشة، باتت مغرية لبعض الأطفال بسبب الفقر، ومنهم من يضعف أمام هذا الإغراء بكل أسف، ليس بسبب سوء تربيته أو تدني أخلاقه بل بسبب شدة الحرمان.. وأي بؤس!؟
فسرقة السندويش بين الطلاب في المدارس أصبحت ظاهرة جديدة وليدة الفقر والحرمان وتدهور الواقع المعيشي!
ومع الأسف تكون معالجة هذه الظواهر في بعض المدارس من خلال المزيد من جرعات التعنيف لهؤلاء المحرومين من أبسط حقوقهم، ما يزيد من نقمتهم على واقعهم وعلى مدرستهم ومعلميهم وأقرانهم وأسرهم!
فكيف سيكون عليه المستقبل مع غلبة وتعميم التمييز الطبقي والظلم والإجحاف والتجويع والتهميش والتشوهات والظواهر الهدامة في المجتمع، وكل ذلك برعاية وإدارة رسمية؟!
سياسات الحديث بلا حرج!
الحكومة، بجهاتها العامة ورسمييها، بعيدة كل البعد عن معاناة المفقرين وهمومهم اليومية، والتي لا تبدأ عند حدود عدم إمكانية الأسرة من تأمين الوجبة الغذائية وصولاً إلى الجوع، وتمر بتفشي الكثير من الظواهر الهدامة اجتماعياً وخلق المزيد منها، ولا تنتهي عند حدود تزايد معدلات الأمراض مع عدم التمكن من المعالجة والاستشفاء منها وصولاً إلى مشارف الموت!
فالسياسات المطبقة، المحابية لمصالح كبار الناهبين والفاسدين في البلاد فقط لا غير، أوصلت الرسميين على مختلف مستويات مسؤولياتهم، إلى حدود العماء المطلق عما يجري بحق الغالبية المفقرة من كوارث بسبب هذه السياسات والإصرار عليها، مع جرعات متزايدة من الإجحاف والظلم والاستهتار والانفصال عن الواقع!
فهل من انفصال عن الواقع أكثر من قول مصدر خاص في مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك بدمشق مؤخراً أن «أسعار المواد الغذائية مستقرة إضافة إلى انخفاض ببعض أسعار المواد، وبأن أسعار المواد بالأسواق مستقرة منذ أكثر من شهر»!؟
وهل من إجحاف حكومي أكثر من أن يتم وضع سقف استهلاك يومي للخبز لكل فرد بواقع 2,5 رغيف فقط لا غير، مع وصول سعر ربطة الخبز بالسوق السوداء أمام الأفران إلى 5000 ليرة!؟
وهل من ظلم رسمي أكثر من أن الحد الأدنى للأجور أقل من 200 ألف ليرة شهرياً، بينما تكلفة وجبة غذاء واحدة ومشبعة هي 100 ألف ليرة بالحد الأدنى لأسرة مكونة من 5 أفراد؟!
فالقائمون على أمر البلاد والعباد، والمتحكمون بجملة السياسات المسخرة لخدمة مصالحهم، استسهلوا ممارسات النهب والفساد والاستغلال، واستمرأوا استلاب وانتهاك الحقوق، وتفاجروا بسلوكيات القسوة والظلم، وكل ذلك استقواء بالسياسات الظالمة المطبقة، وبرعاية منقطعة النظير من قبل الحكومة ورسمييها!
فالاستمرار بهذه السياسات لا يعني فقط استمرار هذه الأنماط من الاستمراء والاستسهال والفجور بنتائجها الكارثية على الغالبية المفقرة، بل يعني السير نحو استنفاذ إمكانية بقاء البلاد نفسها، بناسها ومقدراتها، على قيد الحياة!
فالتغيير الجذري والعميق والشامل وفقاً للقرار 2254 وتنفيذاً لحيثياته لم يعد مطلباً سياسياً من أجل استعادة وحدة وسيادة البلاد وضمان حق تقرير المصير للعباد فقط، بل بات مطلباً عاجلاً وملحاً لبقاء العباد والبلاد على قيد الحياة!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1150