القمح يهجر سهل الغاب كغيره من المحاصيل الاستراتيجية!
بدأت التداعيات السلبية للزيادة الأخيرة على أسعار الأسمدة- بالتوازي مع استمرار ارتفاع أسعار بقية مستلزمات الإنتاج الزراعي- تظهر بنتائجها السلبية على الزراعة والمزارعين والمحاصيل، وخاصة على زراعة محصول القمح!
ففي مثال عملي على ذلك، من واقع زراعة هذا المحصول الاستراتيجي في سهل الغاب، أن غالبية المزارعين لن يباشروا في زراعة أرضهم بالقمح للموسم الحالي، وسيستبدلونه بمحاصيل أخرى مضمونة العائد الاقتصادي بالنسبة إليهم!
فارتفاع تكلفة السماد على الفلاحين بشكل متواتر كل عام، ترافق مع إنهاء الدعم عنه وتحرير أسعاره، بالإضافة لمحدودية كمية المخصصات الموزعة عبر المصرف الزراعي، والتأخر بتسليمها، للدفع بالفلاحين ليكونوا عرضة للاستغلال والتحكم من قبل تجار السوق، بالأسعار وبالكميات وبالنوع والمواصفة!
الأمر بالنسبة للفلاحين بما يخص محصول القمح لم يقف عند هذه الحدود فقط، بل إن تسعير القمح الرسمي غير مجزٍ بالنسبة إليهم، وغالباً ما يتكبدون الخسائر بنهاية كل موسم، أو بالكاد يغطون تكاليف إنتاجهم المرتفعة، والنتيجة هي استمرار تراجع إنتاج محصول القمح عاماً بعد آخر، بسبب عزوف الفلاحين عن زراعته!
حسابات تقريبية غير نهائية!
في حديث مع أحد الفلاحين من منطقة سهل الغاب، قال: إنه بهذا الموسم لن يقوم بزراعة أرضه بالقمح، ولن يغامر بتكبد الخسارة بنهاية الموسم وفقاً للسعر الاسترشادي الذي حددته الحكومة بواقع 4200 ليرة/كغ!
وبحسب حديث المزارع، فإن تكاليف زراعة الدونم ارتفعت بشكل كبير بين الموسم الماضي وبدء الموسم الحالي، ولحين الوصول بالمحصول إلى مرحلة الحصاد ستكون هذه التكاليف أكبر!
وأضاف، إن تكلفة زراعة دونم القمح بحسابات تفاصيل مفرداتها اليوم لا تقل عن 1,5 ميلون ليرة، بين حراثة وبذار وسماد وري وأدوية و.. وقبل الوصول للحصاد وتكاليفه!
مقابل ذلك، بحسب الفلاح، فإن وسطي إنتاج الدونم يقدر بحدود 400 كغ، وعلى السعر الرسمي البالغ 4200 ليرة/كغ/دونم، فإن كل دونم بالكاد سيحقق عائد بمبلغ وقدره 1,650 مليون ليرة، والفارق المقدر بحدود 150 ألف ليرة بين التكلفة الحالية وهذا العائد ستبتعلها تكاليف عمليات الحصاد، هذا إن سلمنا ببقاء أسعار مستلزمات الإنتاج على حالها دون زيادة لنهاية الموسم، ما يعني أنه لن يستفيد من موسمه بقرش، بل وسيكون قد عمل مجاناً وضاع جهده دون عائد أيضاً!
البدائل الاقتصادية!
عن البدائل الزراعية التي تحقق الجدوى الاقتصادية بالنسبة للفلاحين، قال: إن زراعة الجلبانة أو أي محصول آخر (سمسم- حبة البركة- يانسون..) يحقق ربحاً مضموناً أكبر بكثير من زراعة محصول القمح المكلف والمتعب!
فالجلبانة مثلاً، تحتاج إلى كميات سماد أقل بكثير من محصول القمح، بالإضافة إلى محدودية الجهد برعايتها خلال فترة نموها وصولاً لحصادها، أي إن تكاليفها محدودة بالمقارنة مع تكاليف القمح، أما عن سعرها فهو مضاعف بحدود ثلاث مرات أعلى من القمح، ما يعني ضمان ربح مؤكد من زراعتها!
ويطرح المزارع علينا تساؤلاً مشروعاً بعد كل ما سبق: هل أزرع القمح المكلف والمتعب مع عدم ضمان تغطية تكلفته، أم أزرع الجلبانة الأقل تكلفة ومضمونة الربح؟!
تساؤل مكرر والنتيجة تراجع إنتاج المحصول!
بحسب الفلاح، فإن التساؤل أعلاه، بظل استمرار ارتفاع تكاليف الإنتاج والسعر الرسمي غير المجزي لمحصول القمح، معمم على ألسنة الفلاحين في كل موسم، سواء في منطقة سهل الغاب أو غيرها من المناطق الزراعية، والنتيجة أن الغالبية من الفلاحين يقومون بتقليص مساحة زراعة محصول القمح، مقابل توسيع المساحة لزراعة المحاصيل الأخرى، وصولاً للاكتفاء بمساحة ضيقة خاصة بالقمح تكفي الاحتياج الشخصي فقط!
وبحسب المزارع، فإن تقليص مساحة الأرض المخصصة لزراعة القمح في منطقة سهل الغاب قرار شبه معمم على غالبية الفلاحين في المنطقة مع بدء موسم زراعة القمح الآن، وبعضهم بدأ يستنكف عن استلام المخصصات المحدودة المرتبطة بهذا المحصول (بذار- سماد..) كي يتحرروا من التزاماتهم تجاه المصرف الزراعي ومؤسسة الحبوب!
شجون أخرى مرتبطة بمحاصيل استراتيجية تم هجرها!
الحديث مع المزارع لم يقتصر على محصول القمح الاستراتيجي وبدائله، بل وفي مدارات الحديث تم التطرق إلى المحاصيل الاستراتيجية الأخرى التي كان سهل الغاب منتجاً كبيراً لها!
حيث قال المزارع: إن ما يجري الآن من سيناريوهات رسمية وغير رسمية بخصوص محصول القمح، وصولاً للدفع بهجرة زراعته من قبل الفلاحين، سبق أن جرى على محاصيل الشوندر السكري، والقطن التي هجرها الفلاحون عاماً بعد آخر، بسبب السيناريوهات الرسمية المتبعة تجاهها!
فسهل الغاب لم يعد منتجاً يُعول عليه بما يخص محاصيل الشوندر والقطن، بل إن إجمالي إنتاج محصول الشوندر في السهل يعتبر محدوداً جداً، وغير كافٍ لتشغيل معمل سكر سلحب بشكل اقتصادي، حيث يتم استلامه من المزارعين لبيعه كعلف، وهذا الأمر يتكرر عاماً بعد آخر، مع تقلص وتراجع الإنتاج!
فهل ستتم هجرة زراعة محصول القمح الاستراتيجي بشكل نهائي في منطقة سهل الغاب، أو في غيرها من مناطق الإنتاج الزراعي، ليتبع غيره من المحاصيل الاستراتيجية التي سبق أن تم هجرها، والسير بها نحو إنهائها كلياً من خارطة الإنتاج الزراعي؟!
استكمال التضحية بالمحاصيل وصولاً للمغامرة بالأمن الغذائي!
كل المؤشرات تقول: إن ما جرى ويجري بخصوص المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، وصولاً لهجرة زراعتها من قبل الفلاحين، تم بعلم ودراية حكومية ورسمية، وبدفع مباشر من خلال الاستمرار بسياساتها الظالمة!
فالنتائج السلبية لهجرة زراعة القطن والشوندر انعكست على الإنتاج الصناعي المرتبط بها باعتبارها مواد أولية له، ما يعني زيادة تكاليفه بحال الاعتماد على المواد الأولية المستوردة لتشغيله، وهذا الإنتاج الصناعي يشمل مروحة واسعة من المنتجات، مثل: السكر والمولاس والخميرة والغزول والنسيج والاقمشة والألبسة، وغيرها الكثير من المنتجات التي تغطي الاحتياجات المحلية، وتصدر الفائض منها، والنتيجة هي تراجع الإنتاج الصناعي المرتبط بهذه المحاصيل الزراعية الاستراتيجية عاماً بعد آخر!
مقابل ذلك، فإن البديل المتاح دائماً وأبداً هو زيادة المستوردات لتغطية الاحتياجات المحلية طبعاً من هذه المنتجات الصناعية، أي مزيد من المكاسب في جيوب بعض المحظيين من كبار الحيتان في البلاد، وكل ذلك ينعكس سلباً على مجمل الاقتصاد الوطني!
أما الحديث عن تراجع إنتاج محصول القمح، وصولاً لتزايد هجرة زراعته من قبل الفلاحين، فهو يتعدى السلبيات التي تنعكس على الصناعات الغذائية المرتبطة به، وهي أيضاً مروحة واسعة من المنتجات، مثل: البرغل والفريكة والدقيق والنشاء والبسكويت والمعكرونة والشعيرية و.. وصولاً إلى صناعة رغيف الخبز المرتبط بالأمن الغذائي للمواطن!
وكذلك فإن البديل المستورد دائماً متاح، بما في ذلك القمح والدقيق التمويني، بما يحققه من مكاسب لكبار أصحاب الأرباح، الذين باتوا أكثر تحكماً بعوامل الأمن الغذائي للمواطن!
فالتضحية الرسمية بهذه المحاصيل الاستراتيجية، تباعاً وموسماً بعد آخر، يحقق مكاسب ربحية في جيوب بعض المحظيين من أصحاب الأرباح من كبار المستوردين والفاسدين، وهذا ما يمكن تكثيفه كنتائج ملموسة من مجمل السياسات الرسمية المتبعة تجاه المحاصيل الاستراتيجية، وتجاه الإنتاج ومجمل الاقتصاد الوطني!
وبعد كل ما سبق، يستمر الحديث الرسمي التبجحي عن دعم الزراعة والمحاصيل الاستراتيجية والإنتاج الزراعي والصناعي!
فعن أي دعم يجري الحديث، وعلى أي محصول استراتيجي يتم التعويل، وكيف هو واقع الإنتاج الزراعي والصناعي في البلاد، وما هو مصير الأمن الغذائي للمواطن بعد المغامرة بالتضحية فيه؟!
أسئلة كثيرة مشروعة تجيب عليها السياسات الظالمة بكل صلف، من خلال الممارسات والتوجهات الرسمية المتبعة والمستمرة دون توقف، بأن مصالح كبار أصحاب الأرباح أهم بكثير من مصالح المزارعين والمنتجين والمستهلكين والمصلحة الوطنية!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1151