الواقع المعيشي والخدمي والاقتصادي الكارثي.. لا تجمله المطولات الحكومية!

الواقع المعيشي والخدمي والاقتصادي الكارثي.. لا تجمله المطولات الحكومية!

أقر رئيس الحكومة بـ»عدم استقرار سوق الصرف»، وبـ»اتساع الفجوة بين الدخول وتكاليف المعيشة»، وكذلك بـ»المستويات المرتفعة من التضخم الذي أثقل كاهل الطبقات ذات الدخل المحدود على وجه الخصوص».

الإقرار أعلاه أتى خلال العرض المطول الذي قدمه رئيس الحكومة، أمام مجلس الشعب في الجلسة الأولى لأعماله من الدورة العادية العاشرة للدور التشريعي الثالث بتاريخ 17/9/2023، عن «إنجازات الحكومة» خلال الأشهر المنصرمة من العام الحالي، والتوجهات المستقبلية لعملها، والذي دعمه ببعض البيانات والأرقام، التي لم ترق لتجميل موبقات نتائج السياسات الظالمة المتبعة، والتي يدفع ضريبتها الغالبية المفقرة على وجه الخصوص، والاقتصاد الوطني عموماً!
وسنقف فيما يلي عند بعض الطروحات الحكومية مما تم عرضه تحت قبة البرلمان!

بعض الأرقام الفاضحة!

قال رئيس الحكومة: «كتلة تقليل العجز التي تحققت من جرّاء تحريك أسعار بعض المواد المدعومة، بلغت ما يقارب /5,400/ مليار ل.س. وأقول: «تقليل عجز» ولا أقول: «وفراً»، لأن فاتورة تمويل الدعم تتم في الجزء الأكبر منها من خلال التمويل بالعجز، وبالتالي، فإن أي زيادة في أسعار المواد المدعومة، ستساهم في تقليل فاتورة العجز، ولا تعني فعلياً خلق موارد إضافية تدخل إلى الخزينة العامة للدولة»!
لن نخوض بالتمويل بالعجز وسلبياته، مقابل إمكانية تغطية جزء كبير منه، بحال توفر النية والقرار بذلك، من خلال سياسات ضريبية عادلة تطال بشكل رئيسي حسابات كبار أصحاب الأرباح، ووقف مسارب النهب والفساد الكبير، ومصادرة أموال كبار الناهبين والفاسدين، واستعادة ملكية الدولة لبعض القطاعات ذات الأرباح الكبيرة التي تم التخلي عنها، مثل: قطاع الاتصالات الخليوية!
أما عن الوفر أو تقليل العجز فيمكن استخلاصه من خلال إضافة رئيس الحكومة حيث قال: «تم تخصيص مبلغ يقارب /4,600/ مليار ل.س لتمويل زيادة الرواتب والأجور للعاملين في الدولة من مدنيين وعسكريين، وكذلك لتمويل تعويضات إضافية لبعض الشرائح العمالية النوعية في حقول الطب والهندسة والتعليم العالي والبحث العلمي، والرقابة والتفتيش والقوات المسلحة وغيرها. كما تم تخصيص ما يقارب /200/ مليار ليرة لدعم البنية الإنتاجية في القطاعين الزراعي والصناعي»!
على ذلك، فإن «تحريك أسعار بعض المواد المدعومة»، بحسب حديث رئيس الحكومة، والمقصود طبعاً زيادة أسعار المشتقات النفطية بشكل رئيسي، أدت إلى تغطية تمويل الزيادة على الرواتب والأجور والتعويضات كاملة، وفاض منها مبلغ 800 مليار ليرة، وقد تم تخصيص 200 مليار منها للقطاع الزراعي والصناعي، وبالتالي، بقي منها 600 مليار ليرة، لم يذكر رئيس الحكومة لمن خصصت، إن لم تدخل للخزينة كموارد إضافية؟!
ومع ذلك، سنصدق رئيس الحكومة بأن هذا تقليل للعجز وليس وفراً، لكن هل حسبت الحكومة الأثر الكارثي بنتيجة الاستمرار برفع أسعار المشتقات النفطية، وحوامل الطاقة عموماً، بين الحين والآخر، على حياة وخدمات ومعيشة المواطنين، وعلى الإنتاج الصناعي والزراعي، وعلى مجمل الاقتصاد الوطني؟!

قطاع الطاقة فاتورة كبيرة وأثر محدود!

أرقام كثير تم عرضها من قبل رئيس الحكومة، أما الرقم الكبير الملفت فقد كان عن فاتورة الطاقة، حيث قال رئيس الحكومة: إن الفاتورة الشهرية لقطاع الطاقة فقط تزيد عن 2,300 مليار ليرة!
ودون الخوض بحصة الفرد الشهرية من هذه الفاتورة الشهرية المرقومة افتراضاً، أو حصة النهب والفساد فيها، فإن واقع حال قطاع الطاقة يرثى له، سواء بما يخص توفر الطاقة الكهربائية، أو بما يخص توفر المشتقات النفطية، على مستوى حجم استفادة المواطن منه بالنتيجة!
فساعات الوصل الكهربائي لا تتجاوز 6 ساعات خلال الـ 24 ساعة بأحسن الأحوال، ومخصصات الغاز المنزلي بالكاد تصل إلى 4 أسطوانات خلال العام، وسقف مخصصات مازوت التدفئة 100 ليتر خلال العام، وغالباً ما يتم قضم 50 ليتر منها!
فكيف سيقتنع المواطن بكبر حجم الفاتورة الشهرية أعلاه المخصصة لقطاع الطاقة وجدواها بالنسبة إليه، وهو مضطر للجوء إلى البدائل والسوق السوداء، وبأسعارها الاستغلالية المرتفعة؟!

هل القطاع الزراعي مدعوم فعلاً؟!

بحسب رئيس الحكومة، أن «الحكومة مستمرة في دعم القطاع الزراعي ولا سيما المنتج النهائي بالتوازي مع دعم الفلاح في كل مراحل العملية الزراعية، وتأمين مستلزمات الإنتاج، مع تسعير المنتجات الزراعية وفقاً للتكلفة الحقيقية، وذلك بهدف تمكين الفلاحين والمزارعين من تحسين وضعهم المعيشي والاستمرار بنشاطهم الإنتاجي، وبالتوازي العمل على تأهيل المعامل المخصصة لتصنيع بعض الزراعات كالشوندر السكري، وتحديد الكمّيات المزروعة من المحصول بشكل مناسب، بهدف تحقيق الجدوى الاقتصادية من تشغيل تلك المعامل».
الحديث أعلاه، منفصل تماماً عن الواقع، فمستلزمات الإنتاج متروكة غالباً لحيتان السوق المتحكمين بها وبالفلاح، ودعم المنتج النهائي كتوجه حكومي، وعلى الرغم من أهميته، إلا أن الفلاح لا يستفيد منه على الإطلاق، بل من يستفيد منه هي شريحة أصحاب الأرباح من المصدرين بشكل خاص!
أما عن التسعير وفق التكلفة، فقد سبق أن تم الحديث عنه مراراً وتكراراً، سواء بالنسبة لمحصول القمح، أو محصول التبغ، أو القطن، وغيرها من المحاصيل الأخرى!
فالتسعير الحكومي غير مجزٍ، ما يؤدي إلى خسارة الفلاح موسماً بعد آخر، وبالتالي، إما يستبدل زراعته بمحاصيل أكثر جدوى اقتصادية، أو يهجر الزراعة والأرض، وأرقام المحاصيل المتراجعة سنوياً دليل فاقع على ذلك!
ولعل مثال الشوندر السكري الذي تحدث عنه رئيس الحكومة أعلاه دليل أكثر فجاجة على آليات العمل الحكومي بما يخص بعض المحاصيل «الاستراتيجية» والصناعات المرتبطة بها!
فمحصول الشوندر السكري في تراجع مستمر من عام إلى آخر، ويتم بيعه كعلف غالباً، فيما تستمر معامل السكر بالتوقف، أو بالعمل لحساب الغير من القطاع الخاص في أحسن الأحول!

متاهة المنظور السياساتي والكمّي في فاتورة الإنفاق الجاري!

من جملة ما قاله رئيس الحكومة: إن «هناك فاتورة إنفاق جارٍ كبيرة تضم (الرواتب والأجور، دعم المشتقات النفطية، دعم القطاع التعليمي والتربوي، دعم القطاع الصحي، دعم مادة الخبز وغير ذلك)، والحكومة ملتزمة بتسديدها إلى أقصى حد ممكن»!
وقد أدخل رئيس الحكومة أصحاب الدخل المحدود بمتاهة تتحدث عن «المنظور السياساتي المنهجي»، و»المنظور الكمّي اللحظي» بهذا الصدد، قائلاً: «إن الزيادات التي حصلت مؤخراً، قد لا تكون كافية لتلبية احتياجات المواطنين، إذ جاءت محكومة بالموارد المتاحة في ضوء الظروف الخارجية والداخلية. لكن هذه الزيادات تعبر بشكل صريح عن توجهات ومنهج عمل الحكومة القائم على إعادة مقاربة ملف الدعم والإنفاق العام من منظور كلي واسع، لضمان كفاءته وعدالته، وكذلك تعزيز دخول وإيرادات العاملين في الدولة من مصادر التمويل المناسبة عندما تتوفر الإمكانية. فمن المهم جداً مقاربة الخطوات التي اتخذت مؤخراً من منظور سياساتي ومنهجي، أكثر منها من منظور كمي ولحظي»!
فكيف لصاحب الدخل المهدود أن يترجم مقاربة الحكومة أعلاه وفق المنظور «السياساتي»، بعيداً عن «الكمّي واللحظي» الذي يدفع نحو المزيد من إفقاره وعوزه، مع الاستمرار في قضم الدعم المخصص له وباسمه؟!
وكيف يمكن أن يتم تعزيز دخول وإيرادات العاملين في الدولة، والحكومة تؤمن تمويل هذه الإيرادات من خلال رفع أسعار المشتقات النفطية بشكل رئيسي غالباً!؟

1141-20

الكمّي في ملف الدعم!

بحسب رئيس الحكومة: «ثمة صيغ دعم موروثة منذ عدة عقود تقوم على منح الدعم بشكل شمولي، دون تمييز بين من يستحق ومن لا يستحق، بين من يستحق قليلاً، ومن يستحق كثيراً. أرسى هذا الدعم الشمولي الكثير من الصعوبات سواءً لجهة القدرة التمويلية للدعم، أو لجهة الشفافية والكفاءة في الإنفاق على هذا الدعم، في ظل تسرب جزء منه إلى السوق السوداء، في ضوء الصعوبات البالغة التي ترافق قنوات توزيعه. وانطلاقاً من حقيقة عدم القدرة على الاستمرار بهذا الوضع السائد الذي يستنزف موارد الدولة، وعدم القبول به، كان لا بد من اتخاذ خطوات ضرورية وحتمية لمعالجة هذا الخلل التراكمي، نحو صيغ أكثر كفاءةً وأكثر عدالة».
لكن الكمّي في ملف الدعم وفقاً للمنظور «الكلي والواسع لضمان كفاءته وعدالته»، وعلى الرغم من الاعتراف بـ»تسرب جزء منه إلى السوق السوداء»، تمت ترجمته حكومياً على شكل المزيد من التخفيض فيه، والذي أخذ عدة اشكال:
من خلال استمرار مسيرة استبعاد شرائح واسعة منه، باسم من يستحق ومن لا يستحق!
من خلال الزيادات السعرية المتتالية التي طالت جميع مفرداته كسلع وخدمات!
من خلال تخفيض الكمّيات المستحقة للمواد السلع المدعومة للمستحقين بين الحين والآخر!
من خلال تباعد فترات الاستلام للمخصصات، وبالتالي، تخفيض كمي إضافي!
وبالنسبة للكهرباء والماء زيادة في ساعات التقنين!
فعن أي كفاءة وعدالة في ملف الدعم يتم التحدث هنا طالما الحكومة ماضية في سياساتها ونهجها القاضم له تباعاً، وصولاً إلى إنهائه، مع استمرار الفساد الكبير فيه وباسمه؟!

الكمّي في ملف الإنفاق العام!

والكمّي في ملف الإنفاق العام، وخاصة في القطاعات الخدمية، كذلك تمت ترجمته حكومياً على شكل المزيد من التخفيض فيه، والذي أخذ عدة اشكال:
مزيد من التراجع والتردي الخدمي، ناحية الكم والجودة والمواصفة والتكاليف والشرائح المستهدفة!
فرض زيادة على التعرفات والرسوم الخاصة به بين الحين والآخر!
مزيد من الخصخصة المباشرة وغير المباشرة في الكثير من القطاعات الخدمية، أي مزيد من تراجع دور الدولة فيها مقابل مزيد من تغوّل القطاع الخاص!
وبالتالي مزيد من الأعباء والتكاليف على حساب ومن جيب المواطن!
فتخفيض الإنفاق العام أدى إلى تسجيل المزيد من التراجع في دور الدولة ومهامها، مقابل زيادة تغوّل القطاع الخاص، مع تعزيز الفرز الطبقي، ولعل مثال قطاع التعليم بواقعه ومآله فاقع بهذا الصدد!
أما تخفيض الإنفاق العام بالنسبة للقطاعات الإنتاجية فهو كارثة أكبر بكثير مما سبق أعلاه، وصولاً مع غيره من الأسباب لطرح بعض شركات القطاع العام التابعة لوزارة الصناعة للاستثمار الخاص، وبنسبة 40% منها بذريعة توقفها عن العمل، وهو ما سبق أن أتت عليه قاسيون في مادة بعنوان «تعزيز الإنتاج الوطني.. شعار للتسويق الإعلامي فقط!» بتاريخ 3/9/2023!

الكمّي على مستوى الأجور!

أما على المستوى الكمّي بالنسبة لزيادة الأجور فهو:
ضئيل جداً ولا يغطي نسب التضخم الكبيرة!
وغير منظور على مستوى ردم الفجوة الكبيرة بين الأجور وتكاليف المعيشة!
شبه صفري بالمقارنة مع متغيرات الأسعار وارتفاعاتها المستمرة اللحظية!
تم ابتلاع أكثر منه، وبشكل مسبق، قبل صرفه واستلامه!
فزيادة الأجور الكمّية شكلاً هي بواقع الحال مزيد من تآكلها بفعل استمرار الارتفاعات السعرية وعوامل التضخم، يضاف إليها عوامل النهب والاستغلال!

الكمّي الكارثي على مستوى الأسعار!

والكمّي على مستوى الأسعار كارثي في ارتفاعاته المستمرة، وغير المسقوفة، ارتباطاً بما يلي:
تذبذب سعر الصرف المتحكم به من قبل بعض كبار الحيتان في السوق الموازي، مدفوعاً بمهماز سعر الصرف الرسمي!
ارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج بسبب سياسات تخفيض الدعم، وبسبب تحكم بعض كبار أصحاب الأرباح فيها، كماً ونوعاً ومواصفةً!
هوامش الربح الاستغلالية الكبيرة على السلع المستوردة، والتي تضاف إليها هوامش العقوبات والحصار!
وكل ذلك يعني فيما يعنيه ما يلي:
مزيد من تخفيض معدلات الاستهلاك بالنسبة للمواطنين بغالبيتهم المفقرة!
مزيد من تراجع الإنتاج، وتوقف بعض منشآته وقطاعاته!
مزيد من تراجع قيمة الليرة مقابل العملات الأجنبية!
مزيد من تراجع القدرة الشرائية، ومزيد من الارتفاعات السعرية، ومزيد من التضخم!
مزيد من الإفقار والعوز!

الموارد المتاحة وفق المنظور الحكومي!

التخفيض الجائر في الإنفاق العام والدعم هو أحد الأشكال العملية والتنفيذية للسياسات الليبرالية الظالمة، والمفقرة للغالبية من أصحاب الأجور، والمحابية على طول الخط لمصالح القلة من كبار أصحاب الأرباح، والتي أدت إلى تراجع الدولة عن بعض مهامها وواجباتها، والتي فسحت المجال لزيادة نشاط وتغوّل القطاع الخاص كبديل عنها بهذه المهام، بما في ذلك طبعاً النشاط منقطع النظير للسوق السوداء، سواء على مستوى تأمين بعض السلع والخدمات، أو على مستوى سوق الصرف، الذي أقر رئيس الحكومة بعدم استقراره!
فتوجهات ومنهج العمل الحكومي بات واضحاً وضوح الشمس، وكذلك أصبح واضحاً منظورها «السياساتي والمنهجي» المنحاز للقلة الناهبة والفاسدة، مقابل منظورها «الكمّي واللحظي» الذي تريد أن تغرق الغالبية المفقرة فيه!
فمن الكوارث في منهجية عمل الحكومة مثلاً: إنها ما زالت مستمرة بتمويل فاتورة الإنفاق العام والعجز فيها، بالإضافة لتغطية الزيادات الأجرية بين الحين والآخر، على قلتها، عبر التالي بشكل رئيسي:
مزيد من تخفيض الإنفاق العام وتخفيض الدعم!
زيادة أسعار المشتقات النفطية!
الإصدار النقدي، وبيع سندات الحكومة، أي مزيد تراجع القيمة الشرائية لليرة، والمزيد من التضخم، والمزيد من الإفقار المعمم!
وبالتالي، فإن تغطية العجز في فاتورة الإنفاق العام، وفي تمويله، تتأتى فقط من خلال جيوب المفقرين من أصحاب الأجور، وعلى حساب الإنتاج والاقتصاد الوطني، وبعيداً طبعاً عن جيوب وحسابات كبار أصحاب الأرباح والفاسدين والنافذين!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1141
آخر تعديل على الجمعة, 20 تشرين1/أكتوير 2023 23:49