طرح المدارس الحكومية للاستثمار الخاص.. مخالفات بالجملة!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

طرح المدارس الحكومية للاستثمار الخاص.. مخالفات بالجملة!

تحدثت قاسيون في العدد السابق بتاريخ 25/6/2023 بمادة تحت عنوان: «حمى الاستثمار الخاص وصلت إلى المدارس الحكومية!» عن طرح وزارة التربية لعدد من المدارس للاستثمار الخاص!

ومما ورد في المادة أن مدير الشؤون القانونية في الهيئة العامة لأبنية التعليم أوضح في تصريح سابق لوكالة سانا بتاريخ 10/3/2021 أن: «قانون العقود رقم 51 لعام 2004 أتاح للجهات العامة البيع أو التأجير أو الاستثمار بالتراضي أو بالطرق المباشرة، من أجل الحصول على عائدات للجهات العامة، وتنظيم هذه العملية، وكذلك بيع عقارات الجهات العامة أو إيجارها أو استثمارها وفق إطار معين، مؤكداً أن هناك لجنة مشكلة برئاسة وزير الدولة لشؤون الاستثمار اعتمدت الدليل الإجرائي الموحد لكل عمليات استثمار عقارات التربية بالمحافظات».
فهل يكفي أن تتكئ وزارة التربية على قانون العقود بحسب ما ورد أعلاه كي تبرر طرحها لبعض المدارس الحكومية للاستثمار من قبل القطاع الخاص؟!

ماذا يقول الدستور؟

يقول الدستور السوري في المادة الرابعة عشرة منه ما يلي «الثروات الطبيعية والمنشآت والمؤسسات والمرافق العامة هي ملكية عامة، تتولى الدولة استثمارها والإشراف على إدارتها لصالح مجموع الشعب، وواجب المواطنين حمايتها».
المادة أعلاه واضحة وضوح الشمس حول الملكية العامة للمنشآت التي تتولى الدولة نفسها استثمارها والإشراف على إدارتها لصالح الشعب!
وفي المادة السادسة والعشرين من الدستور ورد التالي: «الخدمة العامة تكليف وشرف، غايتها تحقيق المصلحة العامة وخدمة الشعب».
على ذلك فإن الأبنية المدرسية كمنشآت خدمية تنموية تعتبر ملكية عامة من واجب الدولة استثمارها من قبلها مباشرة، وبالتالي فإن مسؤولية وزارة التربية (ضمن تبويب وتعريف الخدمة العامة أعلاه) تنحصر بتحقيق المصلحة العامة وخدمة الشعب من خلال حسن استثمار هذه الأبنية من قبلها، ولصالح الشعب.
فأمر طرح بعض المدارس الحكومية للاستثمار من قبل القطاع الخاص فيه مخالفة دستورية لا يغطيها الاتكاء على قانون العقود رقم 51 لعام 2004، هذا بحال إمكانية الاتكاء عليه بذلك، ولم يكن فيه مخالفة أيضاً؟!

ماذا يقول قانون العقود؟

يحدد قانون العقود طرق تأمين احتياجات الجهات العامة وهي: الشراء المباشر- المناقصة- طلب العروض- المسابقة- العقد بالتراضي- تنفيذ الأشغال بالأمانة.
كذلك تضمن القانون طرق بيع أو إيجار أو استثمار عقارات الجهات العامة أو الأشياء أو اللوازم أو المواد التي تدخل في ملكيتها، وهذه الطرق هي: الطريقة المباشرة- العقد بالتراضي- المزايدة.
وحالات البيع أو التأجير أو الاستثمار بالتراضي هي إذا كانت قيمة المبيعات لا تجاوز 200 ألف ل.س، ويجوز بقرار من مجلس الوزراء تعديل هذه القيمة. وفي حال فشل المزايدة لمرتين متتاليتين. وعند تأجير عقارات الإدارات، حيث إن الإدارة تقوم بوضع قيمة تقديرية للأشياء المراد بيعها أو تأجيرها أو استثمارها، والبيع بطريقة التراضي يتم باللجوء إلى طلب عروض إما بوساطة الإعلان أو بالاتصال بالمباشر على أن تقوم لجنة العقد بالتراضي بالتدقيق في العروض واختيار أفضلها.
والفصل الرابع تضمّن حالات البيع أو التأجير أو الاستثمار بالمزايدة عندما تتجاوز القيمة التقديرية للمواد أو الأشياء المراد بيعها أو تأجيرها أو استثمارها مئتي ألف ليرة سورية أو عندما يقرر آمر الصرف وجوب اللجوء إلى المزايدة. ويجوز بقرار من مجلس الوزراء تعديل هذه القيمة، والمزايدة تتم بأحد الأسلوبين: المزايدة بالظرف المختوم وتجري وفق الأحكام المتعلقة بالمناقصات- المزايدة العلنية وتتم في جلسة علنية.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن المبالغ المسقوفة أعلاه جرى تعديلها وزيادتها.
ومع ذلك فإن كل ما سبق لا ينطبق على الأبنية المدرسية بحال من الأحوال لوضعها بالاستثمار من قبل القطاع الخاص استناداً لمواد قانون العقود، لا من حيث الشكل باعتبار أن الوزارة لم تعلن بشكل رسمي عن طرح بعض المدارس للاستثمار بطريقة المزايدة بعد موافقة الحكومة باعتبار أن المبالغ أعلى من السقوف المحددة بالقانون مع تعديلاته كما هو مفترض، ولا مضموناً باعتبار أن القانون لا ينطبق على الأبنية المدرسية لأنها ليست أبنية إدارات أصلاً، بل هي أبنية خدمة عامة تعنى مباشرة بالمجتمع وتنميته!
والأهم من كل ما سبق أن وزارة التربية نفسها هي وزارة خدمية وليست ذات طابع اقتصادي كي تبحث عن الموارد لتغطية إنفاقها أو جزء منه، وبالتالي للاتكاء على قانون العقود أو سواه من أجل تحقيق هذه الغاية!
فالاتكاء على قانون العقود بهذه الحالة يعتبر مخالفاً، فهو التفاف على مضمون مواده ونصوصه ليس إلا، وبما يحقق مصالح القطاع الخاص دون أدنى شك!

مخالفة لقانون تنظيم التعليم الخاص!

الأكثر من ذلك أن المرسوم التشريعي رقم 55 للعام 2004، الذي ينظم التعليم الخاص، وضع شرطاً بما يخص البناء المدرسي وشروطه واجبة التقيد من قبل القطاع الخاص، وبشكل مسبق قبل الحصول على الترخيص.
فبحسب الفصل الرابع من القانون، ووفقاً للمادة 7 منه، التي ورد فيها ما يلي: «ينبغي أن يكون بناء المؤسسة التعليمية الخاصة ملكاً لصاحب الترخيص أو مستأجراً أو حيازته مشروعة، وأن تتوافر فيه الشروط الآتية، أن يكون موقعه بعيداً عن الأماكن التي تعيق أداء الرسالة التربوية وفق الأسس المعتمدة في التعليمات التنفيذية- أن يكون البناء موافقاً لمتطلبات المراحل التعليمية المرخصة- أن يكون مستوفياً الشروط الصحية ومزوداً بالأثاث والمعدات اللازمة- ألّا يستعمل البناء لغير الأغراض التربوية ومتطلبات النظام التدريسي‏».
فذلك يعني أن حيازة بناء المؤسسة التعليمية الخاصة المستوفية للشروط أعلاه تسبق إمكانية الحصول على الترخيص نفسه لمباشرة العمل!
وبهذا المعنى فإن طرح بعض المدارس الحكومية للاستثمار من قبل القطاع الخاص فيه مخالفة للقانون الناظم لعمل مؤسسات التعليم الخاص أيضاً!

السياسات المعادية للمجتمع والمستقبل!

بغض النظر عن كل المخالفات الواردة أعلاه، فإن المخالفة الأكبر من كل ذلك هي استمرار التضحية بالعملية التعليمية، وبالتعليم المجاني المصون دستوراً، وبالبنية المجتمعية!
فبحسب المادة الخامسة والعشرين من الدستور «التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية أركان أساسية لبناء المجتمع، وتعمل الدولة على تحقيق التنمية المتوازنة بين جميع مناطق الجمهورية العربية السورية».
وكذلك فإن المادة التاسعة والعشرين منه ورد فيها ما يلي «التعليم حق تكفله الدولة، وهو مجاني في جميع مراحله».
فبعد كل التراجع والترهل الذي أصاب العملية التعليمية، وما طرأ عليها من خصخصة مباشرة وغير مباشرة، تأتي مساعي التفريط بالأبنية المدرسية لمصلحة القطاع الخاص، وبما يزيد من إضعاف أحد أركان البنية المجتمعية!
والحال كذلك فإن ممارسات وزارة التربية، والسياسات الحكومية بما يخص قطاع التعليم مع غيرها من السياسات الأخرى، فيها الكثير مما يسجل على أنه مخالف لمضمون مواد الدستور، وفيها تقويض لركن أساسي من أركان بناء المجتمع، مع تكريس إضعاف التنمية وتراجعها!
والأمر على هذا الأساس لم يعد مقتصراً على كونه حمى استثمار وتغول للقطاع الخاص على حساب العام، بل هو مزيد من التضحية والتفريط بالدولة نفسها ومهامها وواجباتها، بل والتفريط بالبلد بقضه وقضيضه، حاضراً ومستقبلاً!
فالتعليم في عصرنا لم يعد السلاح بمواجهة الفاقة والفقر والمرض والغزو الثقافي فقط، بل هو قاطرة التنمية الأساسية للاقتصادات وللمجتمعات!
فتقدم أي مجتمع أصبح يقاس ويقوَّم بما يملكه من معرفة، والتعليم المنتج للمعرفة بالتالي هو ورقة الرهان الرابحة بعصر التقانات الذي نعيش تسارع تطبيقاتها، وفي ظل حمى التنافس على امتلاكها، وحسن استخدامها واستثمارها!
لكن ما يجري من تقويض لدور الدولة، وفقاً للسياسات المطبقة على كافة المستويات وبكافة القطاعات، يحول دون إمكانية التعلّم وامتلاك ناصية العلم والاستزادة المعرفية، بل تحول دون إمكانية استمرار الحامل المادي لهذه المعرفة المتمثل بالسوريين أنفسهم (طلاباً وخريجين وأكاديميين وباحثين..) من البقاء على قيد الحياة!
فالسياسات الظالمة المتبعة لم تعد معادية للمجتمع بغالبيته المفقرة فقط، بل هي معادية لحاضرنا ومستقبلنا!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1129
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:48