أرقام الموازنة العامة... تعبير عن تراجع دور الدولة وتعاظم نفوذ قوى أصحاب الأرباح!
على اعتبار أن لغة الأرقام فيها قول الفصل عادة، بعيداً عن التصريحات والخطب العصماء، الرسمية وغير الرسمية، سنقف فيما يلي عند بعضها بما يخص توزيع الإنفاق بين الجاري والاستثماري في الموازنات السنوية، وذلك استناداً إلى الأرقام والبيانات الرسمية، وخاصة الواردة في المجموعة الإحصائية الصادرة مؤخراً عن المكتب المركزي للإحصاء عن عام 2022.
فمن المعلوم أن النفقات العامة للدول تتكون من عنصرين أساسيين، الأول النفقات الجارية، والثاني النفقات الاستثمارية (أو النفقات العادية والنفقات غير العادية، أو النفقات العادية والنفقات الإنمائية). وتخص النفقات الجارية كل النفقات التي تتكرر بشكل دوري، وهي في الغالب لا تؤدي إلى زيادة في الناتج العام بشكل مباشر مثل (الرواتب والأجور، النفقات التحويلية، الديون، النفقات الإدارية)، في حين أن النفقات الاستثمارية غالباً ما يكون الهدف منها هو زيادة الأصول الرأسمالية للدولة، وبالتالي تؤدي إلى زيادة في الناتج العام بشكل مباشر أو غير مباشر مثل (استثمارات زراعية أو صناعية، إعادة الإعمار، مشاريع خدمية، إلخ). وتختلف طريقة توزيع النفقات العامة بين استثماري وجاري على صعيد الدولة، تبعاً لاختلاف واقعها وظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأهداف التنموية ومعدلات النمو المنشودة منها.
فماذا عن واقع توزيع هذه النفقات في موازناتنا السنوية، وأية أهداف تنموية يمكن تحقيقها من خلالها، ولمصلحة من؟!
الواقع من أرقام الموازنة العامة!
فيما يلي جدول تركيب الموازنة العامة للدولة بين أعوام 1980-2010 الذي يرصد متغيرات التباين كل 5 سنوات بين نسبة النفقات الجارية والإنمائية فيها:
من الواضح أن مسيرة النسبة والتناسب بين النفقات الجارية والاستثمارية هي لصالح النفقات الجارية منذ عام 1980، حيث توزعت الموازنة العامة للدولة في ذاك العام مناصفةً بين الإنفاق الجاري والاستثماري، ثم أصبحت حصة الإنفاق الاستثماري بعد ذلك العام أقل من حصة الإنفاق الجاري بنسب متفاوتة تباعاً!
فنسبة النفقات الاستثمارية انخفضت خلال السنوات 1980-2000 بمعدل وسطي يقدر بحوالي (0.3%)، وبسنوات ما قبل الحرب، أي من عام 2000 وحتى عام 2010 فإن المعدل الوسطي لانخفاض نسبة النفقات الاستثمارية يقدر بحوالي (0.7%).
مع تسجيل فارق نوعي واضح بانخفاض نسب الإنفاق الاستثماري في عامي 1990 و2005، وذلك ارتباطاً بمنعطفات السياسات الاقتصادية المطبقة في تلك الأعوام!
فقانون الاستثمار رقم 10 صدر في عام 1990 مع تزايد الرهان على الاستثمار الخاص، وكعتبة توضح تزايد حجم ونفوذ قوى أصحاب الأرباح، مع تسجيل انزياح وتراجع لدور الدولة الاقتصادي الاجتماعي في حينه، وفي عام 2005 مع تبني النموذج الليبرالي انفتاحاً وتحريراً، وتسارع تراجع وانحسار دور الدولة، مع رجحان لكفة مصالح أصحاب الأرباح على حساب مصالح بقية الشرائح الاجتماعية، ومصلحة الاقتصاد الوطني، كعتبة جديدة وكبيرة، توضح ما وصلت إليه قوى أصحاب الأرباح من نفوذ!
هذا فيما يخص الواقع بأرقام الموازنات السنوية قبل سنوات الحرب، فماذا عن أرقام الموازنات خلال سني الحرب وحتى الآن؟
الجدول التالي فيه بعض التوضيحات الرقمية من عام 2012 حتى عام 2023:
يتضح من خلال بيانات الجدول السابق، العلاقة العكسية التي تربط اشتداد وتيرة الأزمة وتداعيات الحرب مع نسبة الإنفاق الاستثماري!
فمع كل عام خلال سنوات الحرب وحتى الآن كانت حصة النفقات الاستثمارية تنخفض أكثر من العام السابق، على العكس مما هو مفترض!
فبعد أن كانت نسبة الإنفاق الاستثماري تشكل 46% من إجمالي الموازنة في عام 2011 بحسب بيانات المجموعة الإحصائية، أصبحت في الموازنة المعتمدة لعام 2023 تشكل ما لا يزيد عن 18% وعليه فإن المعدل الوسطي لتغير هذه النسبة يقدر بحوالي 7% بالسالب سنوياً، على العكس مما هو مفترض من دور للموازنة بما يخص معدلات التنمية والنمو المنشودة، وخاصة في ظل استمرار تداعيات الحرب والأزمة، هذا بحال كان هذا المنشود منها فعلاً؟!
وما يسجل خلال هذه السنين أيضاً هو تعاظم دور ونفوذ قوى القلة من كبار أصحاب الأرباح الذين تمكنوا عملياً من السيطرة الكلية على مجمل الواقع الاقتصادي في البلاد، مستفيدين من تداعيات الحرب والأزمة، بما في ذلك ذرائع العقوبات والحصار، ومن جملة السياسات الليبرالية المنحازة لمصلحتهم على طول الخط!
القيمة الاسمية والقيمة الحقيقية!
إظهار الموازنات بالقيم الحقيقية يعتبر أمراً في غاية الأهمية، خاصة في ظل الارتفاع الشديد لمعدلات التضخم السنوي، وذلك لأن التضخم يشوه القيم الاقتصادية، فهو يبرزها بحجم أكبر مما هي عليه في الواقع!
بناء عليه لا بد من معرفة القيم الحقيقية لقيم الموازنة العامة بشكلها العام، وقيم الإنفاق الاستثماري بشكل خاص، وذلك كي يساعد على فهم توجهات الدولة فيما يخص الإنفاق الاستثماري، الذي من المفترض أن ترتفع أهميته أضعافاً مضاعفة بسبب الحرب والأزمات!
فمن البدهي في ظل الحرب القاسية التي عانت وتعاني منها البلاد ومن تداعياتها وسلبياتها – تلك الحرب متعددة الأشكال، سواء اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو أمنية– أن تتم دراسة الإنفاق العام بشكل ينسجم وهذا الواقع المؤسف عبر الموازنة بين الإنفاق الجاري والاستثماري بالحد الأدنى، وبما يلبي ويساعد على تقليل آثار الحرب على المجتمع السوري افتراضاً، وبالتالي رفع نسب الإنفاق الاستثماري بدلاً من تخفيضه!
لذلك لا بد من حساب القيم الحقيقية حتى يتسنى لنا فهم الأمور كما هي، وذلك من خلال إعادة حساب أرقام الموازنة بعد حسابها بالدولار استناداً إلى سعر الصرف الرسمي كمعيار يمكن الاستناد إليه في ذلك، والذي يوضحه الجدول التالي:
بعد تحويل القيم الاسمية إلى قيمها الحقيقية بالاستناد إلى سعر الصرف الرسمي، يتضح حجم الانخفاض الهائل في الموازنة العامة بشكل عام، والإنفاق الاستثماري بشكل خاص!
فمعدل الانخفاض التراكمي الوسطي يقدر بحوالي 10.5% خلال الفترة المذكورة أعلاه، ما يعني أن الإنفاق الاستثماري ينخفض سنة بعد سنة بنسبة 10.5% وسطياً!
وبهذا الصدد تجدر الملاحظة أيضاً أن القيمة الحقيقية (وفقاً لنموذج سعر صرف المصرف المركزي) هي قيمة ليست حقيقية فعلاً، فسعر الصرف الرسمي يختلف عن سعر صرف السوق الموازي (الحقيقي نسبياً)، الذي تعمل بموجبه مجمل الأنشطة الاقتصادية في البلاد!
فسعر الصرف بالسوق الموازي كان مرتفعاً بمقدار الضعف أو الضعفين عن سعر الصرف الرسمي في بعض السنوات أعلاه، والفارق النسبي كبير ومستمر بينهما، ما يعني أن حجم انخفاض الإنفاق الاستثماري الحقيقي هو أكثر مما تم حسابه أعلاه بأضعاف أيضاً!
ملاحظة أخرى يجدر التوقف عندها أيضاً وهي أن مخصصات الإنفاق الاستثماري السنوي لا يتم صرفها كاملة بالضرورة، هذا إذا تم الصرف الجزئي منها للغاية المخصصة لها أصلاً ولم يتم التعدي على بعضها نهباً وفساداً!
العلاقة بين الإنفاق الاستثماري والناتج القومي والبطالة!
تبرز أهمية الإنفاق الاستثماري في عدة نواحٍ، أهمها زيادة الموجودات الرأسمالية والاستثمارية للدولة، وبالتالي زيادة الناتج القومي، ما يعني في أحد جوانبه زيادة فرص العمل وتخفيض نسب البطالة، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تحسين مستوى المعيشة للمواطنين ورفع مستويات التنمية.
فزيادة نسبة البطالة تفرض زيادة الإنفاق الاستثماري، وانخفاض الناتج القومي يفرض ضرورة زيادة الإنفاق الاستثماري، وتبعات الحرب ونتائجها الكارثية تفرض زيادة الإنفاق الاستثماري، وإعادة الإعمار وإعادة تأهيل البنى التحتية تفرض زيادة الإنفاق الاستثماري!
وكل ما سبق هو جزء من ضرورات زيادة الإنفاق الاستثماري الذي كان من المفترض أن تأخذ به الحكومات من خلال أرقام موازناتها على أقل تقدير!
ومن أجل محاولة تفسير سلوك ورؤية الحكومات المتعاقبة في هذا السياق، وهو ما لا يمكن تفسيره، نوضح فيما يأتي بيانات البطالة والناتج القومي خلال السنوات المدروسة أعلاه:
يتبين من الجدول أعلاه أن معدل انخفاض الناتج المحلي السنوي يبلغ بشكل متوسط 81.4%، ومعدل انخفاض الإنفاق الاستثماري يبلغ وسطياً 77% خلال الفترة المذكورة، ولعل معدلات البطالة بحسب النسب أعلاه، بالإضافة إلى ارتباطها العضوي بمخصصات الإنفاق الاستثماري والناتج المحلي، لها علاقة بموجات الهجرة والهرب خارج البلاد أيضاً، ولأسباب اقتصادية معيشية بشكل رئيسي!
النموذج المشوه والمزيد من التشوه!
لعل ما سبق يوضح أهمية الإنفاق الاستثماري فيما يخص معظم المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار الأهمية البالغة للإنفاق الجاري أيضاً، وعلى وجه الخصوص الأجور والرواتب والدعم الاجتماعي، لما له من آثار اجتماعية غاية في الأهمية!
ولعل ما يمكن استنتاجه بداية أن مجمل الأرقام أعلاه هي تعبير مكثف عن أحد أوجه التشوه في بنية الاقتصاد السوري، فلو كان الانخفاض المستمر في الإنفاق الاستثماري على حساب زيادة الجاري قد أعطى نتائج ايجابية ملموسة تنعكس بالضرورة على معيشة السوريين لكان الأمر مبرراً ولو بشكل جزئي ونسبي، ولكن التشوه في الأمر أنه مع الزيادة الاسمية للنفقات الجارية سنة وراء أخرى، فإن سياسات رفع الدعم وارتفاع الأسعار آخذة بالاستمرار دون توقف، ناهيك عن سياسات تجميد الرواتب والأجور التي ما زال حدها الأدنى لا يتجاوز 92,970 ليرة فقط لا غير!
فالأرقام أعلاه توضح تراجع إمكانات الدولة المالية، والتي تعني تراجع في قدرة وإمكانات الدولة نفسها على تأدية مهامها وواجباتها وانسحابها من بعضها تباعاً، تارة من خلال تخفيض الإنفاق العام والاستثماري خاصة، وتارة باسم الخصخصة المباشرة وغير المباشرة، والنتيجة هي تسجيل المزيد من التراجع لدور الدولة ومهامها الاقتصادية الاجتماعية، وصولاً إلى التراجع الاقتصادي العام، وبالتالي المزيد من الأزمات الاقتصادية الاجتماعية، والمزيد من تعميم وتعميق الكوارث الإنسانية، في مسيرة انحدار من قاع إلى قاع أعمق من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي!
فالتعويل على الاستثمار الخاص مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولبرلة الاقتصاد بشكل ظالم ومشوه منتصف العقد الأول من الألفية الحالية، لم تؤدِّ إلا إلى الكوارث والأزمات والمزيد منها، بما في ذلك تفجر الأزمة في عام 2011، لتأتي سني الحرب والأزمة لتزيد من المآسي والكوارث التي كرستها كل السياسات الليبرالية المشوهة، لمصلحة كبار أصحاب الأرباح الذين تغولوا نفوذاً وفساداً، بالضد من مصلحة الغالبية المفقرة من أصحاب الأجور والمصلحة الوطنية!
فمع الاستمرار بهذا النهج الاقتصادي العام من الطبيعي أن تكون معدلات البطالة بتزايد، مع تسجيل تراجع مستمر بحجم الناتج المحلي، والأكثر طبيعية ألا يكون هناك لا معدلات نمو ولا أهداف تنموية منشودة، مع تقليص دور الدولة وتقويضه تباعاً، أي تكريس التشوه بشكل أوسع وأعمق!
وجواباً مختصراً لمن يسأل هل من حلول؟ يمكن القول إنه لا حل إلا من خلال إنهاء هذا النهج الاقتصادي المدمر، أي إنهاء السياسات الليبرالية المشوهة والمتوحشة بحواملها والمستفيدين منها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1126