حلول ترقيعية على حساب الأعمار والحقوق
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

حلول ترقيعية على حساب الأعمار والحقوق

درس مجلس الوزراء، خلال جلسة الحكومة بتاريخ 24/8/2022، مشروع صك تشريعي خاص بتعديل أحكام قانون تنظيم الجامعات رقم 6 لعام 2006 من خلال رفع سن التقاعد 5 سنوات لأعضاء الهيئة التدريسية ومرتبتي مدير الأعمال ومشرف الأعمال في الجامعات الحكومية للاستفادة من خدماتهم وخبرتهم التعليمية والبحثية ولتلبية احتياجات الجامعات من هذه الخبرات.

إن مشروع التعديل أعلاه هو اعتراف بوجود مشكلة مزمنة تتعلق بنقص تعداد أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الحكومية دون إيجاد حلول جدية لها، وهو تكريس للتهرب من هذه الحلول على حساب حقوق أصحاب العلاقة من أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات، واستنزاف لهم، أما الحديث عن الاستفادة من الخبرات المتراكمة، رغم أهميتها، فهو لتغليف هذا التهرب ليس إلا!

تفاصيل تؤكد الاستنزاف

في تفاصيل التعديلات المزمعة، فقد أوضح وزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور بسام إبراهيم، في تصريح للصحفيين عقب جلسة مجلس الوزراء، أنه: «تم عرض مشروع صك تشريعي لتعديل المادة 111 من قانون تنظيم الجامعات رقم 6 لعام 2006 المتضمن إحالة أعضاء الهيئة التدريسية إلى سن التقاعد حسب مراتبهم العلمية وهي حالياً كالتالي (الأستاذ 70 سنة، الأستاذ المساعد 65، والمدرس 60) لتصبح في المشروع الجديد (الأستاذ 75 سنة، الأستاذ المساعد 70 سنة، المدرس 65 سنة) كما تمت إضافة أعضاء الهيئة الفنية من مرتبة مشرف على الأعمال ومدير الأعمال لتصبح 65 سنة بدلاً من 60 حالياً».
وقال وزير التعليم العالي والبحث العلمي إنه: «يجوز بقرار من مجلس التعليم العالي بعد اقتراح مجلس الجامعة التمديد لعضو الهيئة التدريسية بعد إحالته إلى التقاعد سنة فسنة وبحد أقصى 5 سنوات وفق حاجة الجامعة لاختصاصه وذلك للاستفادة من الخبرة العلمية التي اكتسبها.»
التعديلات أعلاه تعني أن خدمة الأستاذ من أعضاء الهيئة التدريسية قد تصل بعد التمديد إلى سن 80 عاماً، في استنزاف عمري منقطع النظير لهذه الشريحة!
وبغض النظر عن موافقة أعضاء الهيئة التدريسية على التعديلات من عدمها، ولأي سبب أو مبرر كان، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هنا:
كم المتبقي لهؤلاء من أعمار كي يرتاحوا من مشقة وأعباء ومسؤوليات التدريس عبر التقاعد، في ظل تراجع وسطي معدلات الأعمار في سورية نتيجة لجملة من العوامل والأسباب، أهمها ظروف الحرب وتداعياتها، بالتوازي مع جملة السياسات الاقتصادية الاجتماعية بجوهرها الليبرالي المتوحش؟!

تجاوز لوسطي الأعمار!

بحسب رئيس قسم الطب الشرعي في مشفى المواساة، والرئيس الفخري للطب الشرعي في سورية د.حسين نوفل، نقلاً عن صحيفة الوطن منتصف حزيران 2021، إن: «المعدل الوسطي للأعمار في سورية قبل الحرب يتراوح ما بين 65 إلى 68 سنة إلا أنه في الحرب على سورية انخفض بسبب الحرب من دون أن يحدد نسبة الانخفاض لعدم إجراء دراسات في هذا الصدد وأن ما تم إعداده هي دراسات من جهات خارجية غير مستندة لأية إحصاءات طبية وعلمية، ولذلك فهي لا يؤخذ بها ولا يمكن الاعتماد عليها ولا يمكن أن تقبلها أية جهة علمية».
إن متوسط عمر السوريين الافتراضي أعلاه، والذي انخفض دون أدنى شك، يؤكد أن التعديلات المزمعة أعلاه فيها تجاوز لوسطي الأعمار الافتراضية بين 5-20 سنة، وهي استنزاف شديد للمتبقي من أعمار أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات إلى أبعد الحدود، مع سلب هؤلاء لحقهم بإمكانية التقاعد والراحة بعد سني خدماتهم الطويلة!

ترقيع على حساب الحقوق

إن زيادة 5 سنوات على سن الإحالة إلى التقاعد لأعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الحكومية قد يحل مشكلة نقص تعداد هذه الهيئة مؤقتاً، لكنه بالمقابل استنزاف شديد لهم، مع هضم شبه كلي لحقوقهم التقاعدية!
فزيادة سن التقاعد هو التفاف على أحد أشكال نظام التكافل الاجتماعي المتمثل بالإحالة إلى التقاعد، المصون قانوناً كحق من الحقوق، والذي يمكّن المتقاعد من أعضاء الهيئة التدريسية افتراضاً من الحصول على راتب تقاعدي عند تقدمه في السن، بما يضمن له حياة كريمة بعد سني خدماته وجهوده خلالها، أي إن أية زيادة في سن التقاعد تعتبر وفراً في تكلفة الرواتب بموجب هذا النظام التكافلي التقاعدي، وعلى حساب أصحاب العلاقة ممن تم تمديد خدماتهم قسراً بموجب بعض النصوص القانونية!
فزيادة سن التقاعد ستحقق وفراً في تكاليف مظلة التكافل الاجتماعي، أي الحق في الرواتب التقاعدية المفترضة، وبحالة أعضاء الهيئة التدريسية، وفقاً للتعديلات المزمعة وبحسب وسطي معدلات الأعمار الحالية، هو وفر شبه كلي لهذه التكاليف على حساب حقوق هؤلاء، أي استنزاف مضاعف للأعمار وللحقوق التقاعدية بآن معاً!
وبكل اختصار فإن ما سبق أعلاه يمكن اعتباره جريمة جديدة تضاف إلى مسلسل جرائم التوحش الليبرالي بحق شريحة أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات الحكومية هذه المرة.

مواربة وإصرار في التهرب

لجوء الحكومة لإجراء التعديل على بعض أحكام قانون تنظيم الجامعات رقم 6 لعام 2006، وفقاً للسياق أعلاه، سببه الرئيسي هو نقص الكادر التدريسي في الجامعات، لكن دون البحث في الجذور العميقة لمشكلة النقص هذه، ولمعالجة أسبابها الحقيقية وحلها!
فالتعديل الحكومي أعلاه هو اعتراف مباشر بوجود المشكلة، وهو بآن حل ترقيعي لها على حساب عدادات أعمار هؤلاء الأعضاء، واستنزاف ما تبقى منها، كما أشرنا، كذلك فيه إصرار على عدم حلها!
فالحكومة، ومن خلال لجوئها لهذا النمط من الترقيع، لا تتهرب من الأسباب الحقيقية التي أدت إلى نشوء وتفاقم المشكلة، بل ومن إمكانات حلها بشكل نهائي وجذري!
فالمشكلة بجوهرها مرتبطة بمجموعة من الأسباب المتراكبة والمتشابكة، نوجز أهمها بالنقاط التالية:
السياسات الأجرية (تجميداً وضآلةً)، والتي أصبحت لا تكفي لتغطية تكاليف معيشة يومين لأية أسرة، وهذا كان كفيلاً في البداية بتطفيش الكادرات المؤهلة من كافة جهات القطاع العام الحكومي، ولاحقاً بتطفيش البقية المتبقية من الكفاءات في الجهات العامة، والقطاع التعليمي الحكومي بكافة مراحله ليس استثناء في ذلك!
سياسات التعيين في القطاع الحكومي، ومحدودية فرص العمل المتاحة من خلالها بسبب سياسات تخفيض الإنفاق العام، ناهيك عن عوامل الفساد والمحسوبية والولاء بهذا الإطار، على حساب الكفاءة!
السياسات التعليمية عموماً، والدراسات العليا خصوصاً، وأساليب الإعاقة والتطفيش من متابعة واستكمال الحصول على الدرجات التعليمية العليا (ماجستير- دكتوراه) في كافة الاختصاصات العلمية والبحثية المتاحة، وعدم فتح تخصصات إضافية جديدة، بالتوازي مع تراجع الاعتمادات المخصصة للبحث العلمي عاماً بعد آخر، وأخيراً بربط القبول بالدراسات العليا بتعداد أعضاء الهيئة التدريسية في كل جامعة وقسم وكلية!
كل عوامل النبذ والنزف والتجريف الجارية على مستوى الكفاءات عبر السفر والهجرة، بسبب انغلاق الأفق أمامها داخلاً، بنتيجة جملة السياسات الليبرالية التوحشية المتبعة.
فعلى الرغم أنه ما زال هناك الكثيرون من حملة الدرجات العلمية العليا (ماجستير- دكتوراه)، المحسوبين على طوابير البطالة والتهميش رغماً عنهم، والذين يمكن الاستفادة من تخصصاتهم العلمية لترميم بعض النقص في تعداد أعضاء الهيئات التدريسية في الجامعات، لكن العوائق أمام هؤلاء هي السياسات الأجرية الظالمة وغير المنطقية، وسياسات التعيين السيئة، وجملة السياسات الليبرالية الأخرى التي لا تقل سوءاً، بالتوازي طبعاً مع كل الإصرار الرسمي على متابعة النهج الليبرالي التدميري لكل البنى والقطاعات القائمة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية والتعليمية والثقافية و..، على حساب مصلحة المواطن والوطن!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1085