القانون رقم (29).. استقلالية في الجباية وقيود في الصرف.. والمتضرر الطالب المفقر
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

القانون رقم (29).. استقلالية في الجباية وقيود في الصرف.. والمتضرر الطالب المفقر

صدر القانون رقم (29) لعام 2022 الذي ينص على تحويل المدن الجامعية إلى هيئات عامة ذات طابع إداري مستقلة مالياً وإدارياً، وذلك بهدف «منح إدارات المدن الجامعية صلاحيات مالية وإدارية كافية تمكنها من توفير سكن نظيف وآمن ومريح بكفاءة وفاعلية للطلاب، وتساعدها في إنجاز الأعمال المطلوبة من خدمات وصيانة وإعادة تأهيل إضافة إلى بناء وحدات جديدة وإدارة المرافق والمنشآت الملحقة بالمدن واستثمار بعضها».

وبموجب المادة /3/ منه: «تهدف المدينة الجامعية إلى تأمين سكن لائق وآمن بكفاءة وفعالية لطلاب الجامعة المقيمين فيها، وذلك وفق الأسس والمعايير التي يضعها مجلس الإدارة».
يبدو أن مهمة الهيئات المحدثة بموجب القانون تعتبر كبيرة بالتوازي مع الأهداف أعلاه، وخاصة ما يتعلق بجانب «إنجاز الأعمال المطلوبة من خدمات وصيانة وإعادة تأهيل إضافة إلى بناء وحدات جديدة».
فهل منحت هذه الهيئات الاستقلالية فعلاً؟
وما هي الموارد المتاحة لتحقيق الأهداف أعلاه؟
وما هي المآلات المتوقعة على مستوى مصلحة الطلاب؟

الموارد ذاتية فقط

بحسب المادة /11/ من القانون فإن موارد المدينة الجامعية ذاتية وتتمثل بالتالي:
50% خمسون بالمئة من بدل الخدمة المستوفى سنوياً للإقامة والسكن في المدينة الجامعية.
بدلات استثمار المطاعم والمقاصف والمنتديات والأكشاك والمباني والأراضي والملاعب والمنشآت في المدينة الجامعية.
-المنح والإعانات والهبات والوصايا التي يقبلها مجلس الإدارة وفق القوانين والأنظمة النافذة.
-الإعانة السنوية التي يخصصها مجلس التعليم العالي بناء على اقتراح مجلس الجامعة المختصة من الموارد الذاتية للجامعة.
-أية موارد أخرى تسمح بها القوانين والأنظمة النافذة.
من الواضح أن ما يمكن أن يعول عليه كموارد رئيسية وفقاً لهذه البنود هي بدلات الخدمة المستوفاة سنوياً للإقامة والسكن من الطلاب، وبدلات الاستثمار المذكورة أعلاه.

موازنة مستقلة دون اعتمادات مخصصة

نص القانون بموجب المادة /15/ منه على ما يلي: «تكون لكل مدينة جامعية موازنة مستقلة بفرع خاص في الموازنة العامة للدولة».
لكن بالمقابل لم يتم ذكر اعتمادات مخصصة من الموازنة العامة للمدن الجامعية، حيث تم الاكتفاء بالتأكيد على أن مواردها ذاتية في أكثر من مادة، ولم يرد في بند الموارد أعلاه ما يشي بتخصيص المدن الجامعية بأية اعتمادات من الموازنة العامة للدولة!

اقتطاعات من الموارد الذاتية

لم يتم الاكتفاء بالتأكيد على أن الموارد ذاتية فقط، مع عدم تخصيص اعتمادات من الموازنة العامة للدولة، بل تم اقتطاع جزء من هذه الموارد الذاتية أيضاً!
فبموجب الفقرة /أ/ من المادة /11/ تم اقتطاع نسبة 50% من بدل الخدمة المستوفى سنوياً للإقامة والسكن في المدينة الجامعية لصالح الخزينة العامة للدولة.
وبموجب المادة /12/ تم اقتطاع نسبة 25% من «بدلات استثمار المطاعم والمقاصف والمنتديات والأكشاك والمباني والأراضي والملاعب والمنشآت في المدينة الجامعية»، لتوزع على الشكل التالي: نسبة 15% لصالح الاتحاد، ونسبة 10% لصالح فرع نقابة المعلمين في الجامعة وصندوق التكافل الصحي والاجتماعي في الجامعة مناصفة.
أي إن جزءاً هاماً من الموارد الذاتية لن تستفيد منه الهيئات المحدثة لتحقيق أهدافها.

غايات صرف الموارد

نصت الفقرة /ب/ من المادة /11/ على ما يلي: «يتم الصرف من الموارد الذاتية المذكورة في الفقرة (أ) من هذه المادة في الغايات الآتية: المساهمة في بناء وحدات سكنية جديدة وتجهيزها- ترميم وصيانة الوحدات السكنية القائمة- ترميم وصيانة المرافق العامة وتحسين الخدمات العامة- بناء مرافق ملحقة بالمدينة الجامعية- الغايات الأخرى التي تحدد بقرار من الوزير بعد موافقة وزير المالية».
والسؤال الذي يفرض نفسه هل تكفي الموارد المذكورة أعلاه، وبعد نسب الاقتطاعات المبوبة آنفاً، للصرف على هذه الغايات، وبما يوفر بالنتيجة «سكناً نظيفاً وآمناً ومريحاً بكفاءة وفاعلية للطلاب»؟!

1078-9

صلاحيات ومهام

تم تحديد صلاحيات ومهام مجلس الإدارة والمدير العام بموجب المواد /7و11/ من القانون، وقد كانت مفتوحة بطرف ومسقوفة بطرف آخر، وفيما يلي بعض الملاحظات:
تم منح كامل الصلاحية لمجلس الإدارة بما يخص تعليمات قبول الطلاب وتحديد بدلات خدمة السكن والإقامة وجبايتها، فمن صلاحيات ومهام مجلس الإدارة بحسب المادة /7/: إقرار الأنظمة المتعلقة بالمدينة الجامعية والأحكام المتعلقة بقبول الطلاب وشروط الإقامة ونظام الانضباط فيها، وتصدر هذه الأنظمة بقرار من رئيس الجامعة- اقتراح بدل خدمة السكن والإقامة في المدينة الجامعية بما يتناسب مع سياسة الدولة التعليمية، ويصدر بقرار من الوزير- وضع قواعد المفاضلة بين الطلاب للإقامة في المدينة الجامعية.
لم يتم ذكر بدلات الاستثمار وتحديدها لبعض مرافق المدينة الجامعية (المطاعم والمقاصف والمنتديات والأكشاك والمباني والأراضي والملاعب والمنشآت)، على الرغم أنها تشكل جزءاً أساسياً من موارد الهيئات المحدثة، حيث تم الاكتفاء بإيرادها بشكل عام ومختصر من ضمن التعليمات التي يصدرها المدير العام بحسب مهامه على الشكل التالي: «يصدر جميع التعليمات التي تنظم الشؤون المالية والإدارية والفنية والخدمية والاستثمارية في المدينة الجامعية».
تم اعتبار المدير العام عاقد نفقة وآمر صرف وفق أحكام القوانين والأنظمة المالية النافذة للهيئات العامة ذات الطابع الإداري، وذلك بموجب المادة /10/ الفقرة /ج/، أي صلاحيات مسقوفة من الناحية العملية بموافقة وزارة المالية، بما في ذلك المناقلة بين بنود موازنة المدينة الجامعية للعمليات الجارية، بموجب الفقرة /و/.
والنتيجة بكل اختصار فقد تم منح مجلس الإدارة والمدير العام صلاحيات كافية في وضع تعليمات الجباية والاستثمار وتنفيذها، مع وضع سقوف لهذه الصلاحية على مستوى الإنفاق والصرف.

الصرف مقيد بموافقة وزارة المالية

اللافت في القانون أنه اعتبر أن الهيئات العامة المحدثة بموجبه مستقلة مالياً، لكن بموجب مواده فقد تم منح الصلاحيات في الجباية والاستثمار لمجلس الإدارة والمدير العام، مع سحب هذه الصلاحيات في الصرف كما أشرنا، وبالتالي فقد غابت الاستقلالية المالية المشار إليها أعلاه، حيث يتبين أنها استقلالية مجتزأة، محدودة ومقيدة!
وكذلك فقد نصت الفقرة /ج/ من المادة /11/ على ما يلي: «تحدد نسبة الصرف في الغايات المحددة في الفقرة (ب) من هذه المادة بقرار من الوزير بعد موافقة وزارة المالية بناء على اقتراح مجلس الإدارة».
الواضح أنه لم يتم الاكتفاء باعتبار الوزير بمثابة آمر صرف محدود الصلاحيات بموجب المواد أعلاه، بل تم تقييده بموافقة وزارة المالية على نسب الصرف أيضاً!
أي إن كل عملية صرف يتم إقرارها من مجلس الإدارة، للغايات المبوبة بموجب الفقرة (ب) أعلاه، سترفع من قبل مجلس الإدارة للوزير عن طريق رئاسة الجامعة على شكل اقتراح موجه بكتاب إلى وزارة المالية، وبحال موافقتها على الصرف، بعد دراسته وتمحيصه، تعاد للوزير ليصدر القرار اللازم بشأنها، لتوضع في التنفيذ بعد ذلك!
ولكم أن تتخيلوا مثلاً أن مجرد صيانة وإصلاح صنبور مياه، في وحدة سكنية ما من المدن الجامعية في المحافظات، سيحتاج إلى هذه السلسلة من المراسلات والدراسات والموافقات!
فعن أية صلاحية واستقلالية مالية للهيئات العامة المحدثة يجري الحديث هنا، لا وبل مع روتين قاتل أيضاً؟!
وهل الصلاحية والاستقلالية في الجباية وزيادة الموارد أهم من الصلاحية في الصرف؟

زيادة الإيرادات مهمة أساسية

أمام المهام الملقاة على عاتق مجلس الإدارة والمدير العام بموجب نصوص القانون، وفي ظل محدودية الموارد الذاتية، مع عدم وجود اعتمادات مخصصة من الموازنة العامة للدولة، فإن المآلات المتوقعة بحسب الصلاحيات أعلاه ستركز جلّ عمل مجلس الإدارة والمدير العام نحو زيادة الإيرادات، والمتمثلة أساساً بالرسوم السنوية المجباة من الطلاب، وبدلات الاستثمار وتوسيعها، وذلك لتأمين الموارد لعمليات الصيانة وإعادة التأهيل للوحدات السكنية الموجودة فقط!
فكيف الحال مع مهام المساهمة في إحداث وحدات سكن جامعي جديدة وتجهيزها، باعتبار أن هذه المهمة مكلفة جداً، وبنفس الوقت ضرورية نظراً لتزايد أعداد الطلاب عاماً بعد آخر؟!
فالقانون منح مجلس الإدارة الصلاحيات الكافية لاستقطاب المزيد من الاستثمارات الخاصة في المدن الجامعية، مع مروحة واسعة من العناوين والغايات، بما في ذلك الأراضي المتاحة بهذه المدن بحسب نوع المشروع الاستثماري، وهذا لا شك يعتبر فرصة مناسبة للمستثمرين بغاية تحقيق هوامش الربح المضمونة، بغض النظر عن مصلحة الطلاب من ذلك!
سيناريو سيئ على حساب الطلاب المفقرين
ما يُخشى منه بعد كل ذلك أن يتم اللجوء إلى ما يلي كسيناريو متوقع ومتوافق مع الصلاحيات والمهام المنصوص عنها قانوناً، والذي لن تنقصه المبررات والذرائع:
زيادة الرسوم مقابل بدلات الخدمة المستوفاة سنوياً للإقامة والسكن من الطلاب، مع تعديل شروط القبول في السكن الجامعي، مع ضمان تشجيع وزارة المالية والحكومة على هذا الإجراء باعتبار الخزينة ستستفيد بنسبة 50% من هذه الرسوم، وربما تصبح المدن الجامعية مخصصة للمليئين مالياً والمحظيين بالمحسوبية والوساطة بالنتيجة، أي تكريس أسوأ لما هو قائم حالياً على هذا المستوى!
زيادة بدلات استثمار المطاعم والمقاصف والمنتديات والأكشاك و..، والتي سيتم تحصيلها من جيوب الطلاب طبعاً عبر الأسعار، باعتبارها تقدم خدمات طلابية افتراضاً، مع ضمان موافقة الاتحاد، أو صمته بالحد الأدنى، على ذلك باعتباره مستفيداً من نسبة 15% من هذه الإيرادات، وربما بالتالي تصبح هذه الخدمات مخصصة هي الأخرى للمقتدرين مالياً فقط!
استقطاب المزيد من المستثمرين للمباني والأراضي والملاعب والمنشآت في المدن الجامعية، أي توسيع حصة الاستثمار على حساب الحدائق والوجائب، أي على حساب المتنفسات الطلابية في هذه المدن، كما على حساب المساحات الممكن الاستفادة منها لبناء وحدات سكن جديدة، وطبعاً ذلك يتماشى مع السياسات العامة تحت عناوين «تشجيع الاستثمار واستقطابه»!
مع تغوّل الاستثمار، بالتوازي مع تغول أوجه الفساد، فإن كل ما سبق أعلاه ستكون نتائجه أكثر سوءاً وكارثية على عموم الطلاب في السكن الجامعي، وخاصة شريحة المفقرين!
لا شك أن سيناريو الخشية السيئ أعلاه ليس مستغرباً، فهو انعكاس ونتيجة لجملة الواقع الأكثر سوءاً على كافة المستويات.
فهو لا يتعارض مع الهدف «العائم» المتمثل بعبارة «تأمين سكن لائق وآمن بكفاءة وفعالية لطلاب الجامعة المقيمين فيها»، لكن يبقى السؤال من هم «المقيمون» وفقاً لهذا السيناريو الواقعي؟!
وكذلك لا يتعارض مع «سياسة الدولة التعليمية» المشار إليها بعبارة مختصرة في متن القانون، فالملموس من هذه السياسة هو تكرس التمييز الطبقي وشرعنته تباعاً، وذلك توافقاً مع جملة السياسات الليبرالية المطبقة منذ عقود!
فهؤلاء «المقيمون» ربما لن يكونوا بالنتيجة إلا الطلاب المقتدرين من أبناء النخبة الثرية القادرين على تحمل الإنفاق، والمزيد منه ربما على الخدمات الترفيّة والترفيهية أيضاً من خلال الاستثمارات المستقطبة، ولم لا؟!
وليذهب الطلاب من أبناء المفقرين والمعوزين، أصحاب المصلحة الحقيقية بالسكن الجامعي، وزيادة وحداته وتوسيع خدماته وتحسينها، إلى الجحيم!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1078
آخر تعديل على الإثنين, 11 تموز/يوليو 2022 14:15