جواز السفر تحت مجهر السوق السوداء
ازدادت حدة الأوضاع الكارثية على المستويين الخدمي والمعيشي في الآونة الأخيرة بشكل متسارع، ليجد المواطن نفسه عاجزاً وسط سيل من الأزمات الخانقة، إحباطاً ويأساً، فبات التفكير بالسفر منفذ الخلاص للغالبية من المواطنين، وخاصة من هم في سن الشباب.
فقد أصبح الازدحام أمام إدارة الهجرة والجوازات وفروعها في جميع المحافظات، مشهداً معتاداً منذ أشهر عدة، وترافق ازدياد الطلب على السفر المرتبط بانحدار الوضع المعيشي والخدمي، بظهور أزمة خانقة أصبح معها الحصول على جواز سفر حلماً صعب المنال! كما تنوعت معها الأسباب، منها ما نسب إلى أسباب تتعلق بالعقوبات الاقتصادية وجائحة كورونا، حيث أدت إلى تأخر توريد المواد الخام (ورق وأحبار خاصة) إلى المطابع وفقاً لتصريحات رسمية، ومنها ما بقي مجهولاً!
الحجز الإلكتروني مأساة أكبر
اعتمدت وزارة الداخلية، خلال شهر تشرين الثاني الماضي، منظومة حجز دور للحصول على جواز سفر عبر موقعها الإلكتروني، حيث يتم حجز الدور عبر النافذة الإلكترونية المخصصة لهذه الغاية.
وقد اقتصرت هذه الخدمة بداية على أبناء محافظتي دمشق وريفها، فمن دون الحصول على الرقم عبر المنصة لا يمكن للمواطن إنجاز معاملته.
لا شك أن اعتماد هذه الآلية الإلكترونية، يهدف إلى تسهيل إجراءات الحصول على جواز السفر افتراضاً، لكن ما شهدناه على أرض الواقع يثبت عكس ذلك!
فالمنصة تفتح باب التسجيل مرتين خلال اليوم، الأولى عند الساعة الـ 9 صباحاً ولمدة لا تتجاوز الدقيقة، والثانية عند الساعة الـ 3 ظهراً ولمدة الدقيقة واحدة أيضاً، وذلك بحسب شهادات المواطنين الذين اختبروا هذه الآلية، التي نجحت في إخفاء أزمة الازدحام من السطح، وتحويلها إلى انتظار المواطن الطويل خلف الأجهزة الإلكترونية، مع كم المحاولات الكثيرة التي تنتهي بفشل التسجيل غالباً، فالمواطن المحظي هو من يتمكن من حجز الدور خلال هذه الدقائق المحدودة!
إخفاء الأزمات بدلاً من حلها
إن مساعي تحويل معاملات جواز السفر إلى الشكل الإلكتروني، في ظل استمرار الأزمة الخانقة للحصول عليه، لا تقدم حلّاً للمواطنين، فجل ما قامت به هو إخفاء مشاهد وطوابير الازدحام أمام إدارات الهجرة والجوازات وتحويلها إلى شكلٍ افتراضي.
فطرح الآلية الإلكترونية في ظل استمرار الأزمة ومبرراتها، يعيدنا إلى مشهد الأزمات السابقة المتكررة لطوابير المد البشري على المواد الأساسية من «الخبز- الغاز- المحروقات»، والـ لا حلول الحكومية المبتكرة عبر البطاقة الذكية، بعدما حولت طوابير المد البشري من شكلها الفيزيائي إلى شكلها الافتراضي، مع الحفاظ على معاناة المواطن ذاتها.
فجوهر المشكلة لم يحل، بل تحولت حاجة المواطن إلى سلعة مربحة يتم تداولها عبر شبكات السوق السوداء وتجار الأزمات، نهباً واستغلالاً.
تحت رحمة السوق السوداء
اللافت أن معاملات الحصول على جواز السفر لم تسلم من موبقات شبكات السوق السوداء.
فقد اعتدنا أن شبكات هذه السوق تنشط حيث توجد الأزمات، لتخلق حلقات الفساد سماسرتها من قلب الأزمات وبأشكال عدة، فقد تلتقي بهؤلاء السماسرة أمام مبنى الهجرة والجوازات منتظرين اللحظة المناسبة ليتصيدوا غنيمتهم، أو ربما بحديث عابر تشتكي من خلاله عن معاناة الحصول على جواز السفر، لينتهي بعبارة «خود رقمو إيدوا طايلة بساعدك بس بدك تدفع».. وهكذا.
وقد أرتقى شكل تواجد هذه الشبكات، ليصبح شبه علني عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فتكلفة حجز الدور فقط تتراوح بين الـ 150 ألف وحتى 200 ألف ل.س، ولتنتهي بعض هذه الصفقات بتسديد مبالغ تقدر ببضعة ملايين لقاء الحصول على جواز السفر، هذا إن لم يقع المواطن في مصيدة النصب دون الحصول على جواز السفر بالنتيجة!
قنوات الفساد وشبكاته.. منها وإليها..
وفقاً لتصريح مدير إدارة الهجرة والجوازات بوزارة الداخلية يوم 26 شباط: «تم تقديم ما يقارب 23 عنصراً من الشرطة وصف الضباط من مرتبات فروع الهجرة والجوازات إلى القضاء عن طريق إدارة الأمن الجنائي، ونقلهم إلى وحدات غير عاملة، ولا يوجد فيها احتكاك مع الإخوة المواطنين»، كما أكد أن: «هناك موظفين في الإدارة وفروعها تورطوا بما فيهم ضباط، وتم تقديم رئيس فرع هجرة مع عدد من العناصر إلى القضاء عن طريق إدارة الأمن الجنائي، وتم نقل عدد من الضباط خارج مرتبات الهجرة والجوازات».
يتضح وفقاً لتصريح مدير الهجرة والجوازات، مع تعميم ظاهرة شبكات السوق السوداء التي تنشط على حساب أزمات المواطنين (المعيشية والخدمية)، أن الفساد يبدأ من داخل الجهاز الإداري ذي السلطة الأعلى القادرة على تسيير الخروقات عبر بعض الفاسدين، وفق الأشكال سابقة الذكر وغيرها.
بالإضافة إلى أنّ ما سبق يؤكد قدرة حلقات الفساد على العمل وفق درجة عالية من التنظيم في إدارة شبكاتها العاملة، على حساب جيب المواطن وحاجاته الملحة، والتي تتناسب طرداً مع الأزمات (الموضوعية والمفتعلة) التي تعمقها الجهات المعنية.
مشروع جواز السفر الإلكتروني
أكد مدير إدارة المعلوماتية والاتصالات في وزارة الداخلية، أنه سيتم قريباً تقديم جواز السفر عن طريق الإنترنت بشكل كامل، وذلك عبر إنشاء بوابة إلكترونية بالتعاون مع الشركة السورية للاتصالات وشركة المدفوعات الرسمية، ويتيح التطبيق إمكانية اختيار المكان والزمان المناسبين للمواطن المتقدم، حيث يصل للمتقدم رد بالموعد المحدد للاستلام بعد أن يسدد قيمة جواز السفر إلكترونياً عبر شركة الدفوعات الرسمية.
لكن طالما أن الأزمة ومبرراتها لم تحل من جذورها، والمتمثلة بالعقوبات والأوراق والأحبار الخاصة وغيرها، سيبقى لمنظومة الفساد وشبكاتها العاملة في السوق السوداء جذورها وسطوتها، خصوصاً مع مستوى الرقابة الهش.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1060