رغيف الخبز.. النهب باسم الدعم والتوجه للخصخصة
من الواضح أن القائمين على أمر رغيف الخبز «المدعوم» من الرسميين كانوا قد صنعوا منه معضلة خلال السنوات الماضية وحتى الآن، وتم تسويقها وكأنها مشكلة كبيرة عصية عن الحل، وباسم مصلحة المواطن وتحت عناوين الدعم وإيصاله لمستحقيه تم تعقيد هذه المشكلة، وجعلوا منها أزمة تكاثرت حولها الاقتراحات ومشاريع الحلول دون جدوى.
فقد بقيت الأزمة وتفاقمت، وما زال المواطن يدفع ضريبتها وحيداً، ليس على مستوى إجراءات تخفيض الدعم المتتالي على الرغيف فقط، بل على مستوى كفاية حاجته منه، مع تزايد أوجه استغلال هذه الحاجة طبعاً، بمقابل استشراس ووقاحة شبكات النهب والفساد التي تعمل في عمق حلقات إنتاج وتوزيع الرغيف.
إجراءات تخفيض الدعم والتطفيش من الاستهلاك
طالت الإجراءات التي تم اتخاذها بشأن رغيف الخبز «المدعوم» خلال السنوات السابقة هذا الدعم تخفيضاً، بشكل مباشر وغير مباشر، من خلال زيادة السعر ولعدة مرات خلال هذه الفترة، وكذلك من خلال تخفيض وزن الربطة أيضاً، وأخيراً، من خلال وضع سقف استهلاك لكل مواطن، مع تحديد مدة لهذا الاستهلاك، مع تجربة الـ «توطين» وزيادة المعتمدين الأخيرة ونتائجها السلبية، مع عدم إغفال واقع تراجع مواصفة الرغيف وجودته التي تعتبر بحد ذاتها إجراءً تطفيشياً يخفض معدلات الاستهلاك، ويزيد نسب النهب والفساد والهدر.
وليس جديداً القول: إن كل الإجراءات المتخذة باسم رغيف الخبز التمويني المدعوم أدت إلى تخفيض الدعم بشكل كبير، بمقابل الحفاظ على حصة النهب والفساد الكبير، وذلك لسبب بسيط جداً أن هذه الإجراءات كانت تتمحور حول الحلقة الأخيرة المتمثلة بالصلة المباشرة للمواطن مع رغيف الخبز المدعوم توزيعاً وبيعاً، وتم تسخير «الذكاء» من أجلها، أما بقية الحلقات فلم يتم الاقتراب منها وتسليط الضوء عليها لا من قريب ولا من بعيد رغم أهميتها، فلا «ذكاء» طالها ولا من يحزنون!
حلقات مغيبة وبعيدة عن الأضواء والذكاء
سلسلة إنتاج رغيف الخبز «المدعوم» تمر عبر الكثير من الحلقات، وكل منها يمكن اعتبارها منفذ نهب وفساد وهدر، مع اختلاف طبيعته وحجمه، ومن هذه الحلقات، البعيدة عن الأضواء، مثلاً:
عمليات وإجراءات استلام القمح من الفلاحين بمئات آلاف الأطنان سنوياً، وبقيمة مئات المليارات من الليرات السورية، وإجراءات تسديد هذه القيمة وفقاً للسعر «المدعوم» المقر في كل موسم من قبل الحكومة.
إجراءات تخزين القمح المستلم من الفلاحين، في الصوامع أو في أماكن التجميع الأخرى، وتكاليفها على مستوى النقل من مراكز الاستلام المعتمدة والمنتشرة على مستوى القطر إلى مراكز التجميع والتخزين.
صفقات التعاقد على استيراد كميات كبيرة من القمح أو الطحين سنوياً، بمئات آلاف الأطنان أيضاً، وبمئات المليارات من الليرات السورية، أو ما يعادلها بالعملة الصعبة، كقيمة، لتغطية حاجة صناعة الرغيف، مع لحظ فروقات الأسعار وهوامش الأرباح بذرائع الحصار والعقوبات.
تكاليف نقل القمح بالشاحنات الحكومية والخاصة من الصوامع ومراكز التجميع إلى المطاحن العامة والخاصة.
عمليات وتكاليف تشغيل المطاحن العامة، لطحن القمح واستخراج الدقيق التمويني وفقاً للمواصفات المعتمدة والنسب المحددة للاستخراج، مع الأخذ بعين الاعتبار هوامش «الهدر» المسموحة رسمياً بهذه العملية.
صفقات التعاقد مع المطاحن الخاصة وتشغيلها لنفس الغاية السابقة، طبعاً مع هوامش الربح المضافة لمصلحة هذه المطاحن.
قوافل نقل أكياس الدقيق التمويني من المطاحن العامة والخاصة إلى مستودعات السورية للمخابز في المحافظات، ثم إعادة توزيعها إلى المخابز العامة والخاصة في كل محافظة.
عمليات توزيع بقية مستلزمات إنتاج الرغيف، المدعومة أيضاً، (مازوت- خميرة- ملح) إلى المخابز العامة والخاصة، وفقاً لحساب مخصصات كل منها بحسب كمية الدقيق التمويني المسلمة لكل مخبز وفرن.
صفقات تأمين أكياس النايلون من أجل تعبئة ربطات الخبز فيها في كل مخبز.
يضاف إلى كل ما سبق عقود التحميل والتنزيل، للقمح أو للدقيق، في كل حلقة من الحلقات السابقة.
فليس صحيحاً أن النهب والفساد والهدر يقتصر على الحلقة الأخيرة المتمثلة بعلاقة ربطة الخبز مع المواطن، ودوره الذي يتم تسليط الضوء عليه منفرداً، وتركيز الإجراءات «الذكية» وحصرها به، وصولاً لتطفيشه من استهلاك الرغيف المدعوم!
فكل حلقة من الحلقات أعلاه، كسلسلة متكاملة، تتعامل مع مئات المليارات من الليرات السورية سنوياً باسم رغيف الخبز «المدعوم»، وفيها ما فيها من أوجه نهب وفساد وهدر كبير، ومن الواجب أن يتم تسليط الضوء عليها، لكن «الذكاء» لم يطلها وتم الاكتفاء به بالضد من مصلحة المواطن حتى الآن!
أسئلة مشروعة
بهذا الصدد نتساءل على سبيل المثال لا الحصر:
أين تسخير «الذكاء» في بقية الحلقات من هذه السلسلة، المترابطة والمتشابكة، والكبيرة بمبالغها المصروفة سنوياً من الخزينة العامة للدولة، أي من جيوب المواطنين عملياً؟
أين الشفافية في عقود استيراد القمح والطحين الكبيرة بمبالغها السنوية، أو العقود مع المطاحن الخاصة، باسم الرغيف المدعوم وصناعته؟
ماذا جرى بملف الفساد الذي تم التوقف عنده بشكل رسمي في مستودعات القمح والطحين في الحسكة، والذي جرى تداوله عبر وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية في حينه، أو غيره من ملفات الفساد الأخرى الخاصة بالدقيق والقمح؟
ما هي نتائج التحقيقات في الضبوط التي تم تنظيمها رسمياً من قبل مديريات التموين في المحافظات طيلة السنوات الماضية بشأن كميات الدقيق التمويني المهرب، وخاصة بما يتعلق بمصدر هذه الكميات (الكبيرة بمجموعها)، هل هي المخابز أم من المطاحن العامة والخاصة، أم تم الاكتفاء بمعاقبة من تم ضبطهم كأفراد بعيداً عن الشبكات، التي تدير وتسهل عملهم وتستفيد منه؟
هل اكتفينا بالعجز عن مكافحة شبكات بيع الخبز أمام المخابز والأفران؟
فكمية 1 طن من القمح أو الدقيق التمويني المهرب مثلاً تغطي حاجة مئات المواطنين من الخبز يومياً، وتبتلع حصتهم من الدعم، وتخفيض بضعة ليرات على كل 1 طن من صفقات القمح أو الطحين، أو على كل تعاقد مع مطحنة خاصة، قد يوفر مئات الملايين من الليرات السورية سنوياً، وبالتالي، يخفض من فاتورة الدعم التي تطنب مسامعنا بها، أما أن يتم التركيز على أرغفة المواطنين التي أصبحت معدودة، واتخاذ الإجراءات بشأنها، وباسم الدعم وإيصاله لمستحقيه فهو التعمية بعينها عن حجم الفساد الكبير في بقية الحلقات أعلاه!
البدء بخصخصة حلقة البيع والتوزيع
ما جري حتى الآن باسم الرغيف المدعوم هو تسليط الضوء على حلقة البيع والتوزيع فقط من كامل حلقات سلسلة إنتاج وتصنيع هذا الرغيف، كما سلف، والتي وصلنا من خلالها إلى إجراءات تخفيض الدعم المتتالية، مع الإبقاء على حصة النهب والفساد الكبير!
والأنكى، هو خصخصة حلقة البيع والتوزيع من خلال زيادة المعتمدين وحصر العملية بهم تحت عنوان تجربة «التوطين» الأخيرة في كل من محافظات (اللاذقية- طرطوس- حماة) حالياً، مع الإعلان عن تثبيتها وعدم التراجع عنها، والقابلة للتعميم على بقية المحافظات، كما تم الإعلان عن ذلك رسمياً، طبعاً مع هامش ربح رسمي يتم اقتطاعه من جيوب العباد لمصلحة هؤلاء الموزعين، ناهيك عن الهامش غير الرسمي الذي يضيفه هؤلاء على كل ربطة خبز!
فهل ما وصلنا إليه حتى الآن بشأن رغيف الخبز، مع استكمال إجراءات تخفيض الدعم عليه وصولاً لإنهائه، هو توطئة لاستكمال خصخصته؟!
فالمقدمات التي أعلن عنها وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك مؤخراً، حول التفريق في حق الدعم بين (المقتدر وغير المقتدر)، مع الحديث عن تسييل الدعم، كمشروع مزمع جديد تم طرحه من قبله لمعالجة أزمة رغيف الخبز المتفاقمة، وكأنها تشي بنهاية الدعم مع البدء بخصخصته!
وطبعاً للحديث تتمة مع تفاصيل المشروع المزمع بحال إعلانها، وخاصة ما يتعلق بتفسير عبارة (المقتدر وغير المقتدر)!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1031