الغياب الحكومي والبديل المشوه
عبير حداد عبير حداد

الغياب الحكومي والبديل المشوه

في سورية، أصبح المواطن يعيش فصاماً بين واقع «الأزمات والحاجة إلى حلول جدية»، وبين التصريحات والقرارات الحكومية البعيدة عن الواقع السوري كل البعد.

الأزمات الممنهجة متتالية، ودوماً توجد لدى المسؤولين حلول بالجملة لا تتعدى نتائجها حدود البهرجة الإعلامية عبر الوسائل المتلفزة، أو منصات التواصل الاجتماعي، والتي باتت تخدم مصالح القلة القليلة من الفاسدين والناهبين.
فقد باتت عتبة تنبيهنا لتلك الحلول الحكومية الذكية فاقدةً لفعاليتها، بل وأصابتنا بالشبع إلى حد التخمة، حتى أصبحت محط سخرية الشارع السوري.

عجز واغتراب عن الواقع

على ما يبدو، بل وأصبح واضحاً للعيان، أن قرارات وتوجهات الدولة ومؤسساتها أصابها اغتراب حقيقي عن الواقع، والأزمات اليوم بالحقيقة تدار وتحل من قبلهم وفق إخراج هوليودي لا يلامس الاحتياجات السورية، ولا المعاناة اليومية التي باتت ملازمة لواقع الخدمات المتردي، الذي أبصر النور منذ النشأة الأولى لجذور السياسات الليبرالية وتخفيض الدعم، والتي بدأ ترسيخها منذ أكثر من عقدين، وما زالت مستمرة حتى اليوم بشكلها الفج، رغم ما أدت إليه من إفقار وبطالة، وغياب شبه كامل للدور الحقيقي الذي يُفترض أن تمارسه مؤسسات الدولة، وعجزها أخيراً عن تأمين الاحتياجات الأساسية من خبز ومياه وكهرباء ومحروقات و...

ابتزاز رغم المحدودية

أصبح دور الدولة ومؤسساتها محدوداً، والمواطن السوري يصارع وحيداً ضمن ميادين عدة وسط الغلاء الجنوني، والفجوة الكبيرة بين واقع الأجور وتكاليف المعيشة، التي زادت من أعداد الذين أصبحوا تحت خط الفقر، بالإضافة إلى استمرار سياسة تخفيض الدعم، سواء عبر رفع الأسعار أو تخفيض الكميات، واستغلال التجار والسماسرة، ورغم تلك المحدودية لدور المؤسسات، فما زال المواطن يتعرض للابتزاز والاستغلال المدروس فعلاً.
فمثلاً: بعد تخفيض كميات المحروقات، والتي يجري تقنينها حتى اليوم، وبعد ابتداع الحل المتمثل بالرسالة السحرية التي حلت مشكلة الطوابير الممتدة في كافة المحافظات، أصبح السؤال الأهم في أحاديث المواطنين وجلساتهم: «ما وصلتك الرسالة».
فمضر سائق التكسي تحدث عن معاناته، فرسالة البنزين لم تصل إليه منذ أكثر من أسبوع، وعندما سأل أكثر من محطة وقود، أخبروه أن البنزين متوفر ضمن المحطات ولكن لا توجد رسائل نصية في الوقت الحالي، دون ذكر السبب!
وفي الوقت الذي ارتفع فيه سعر البنزين الأوكتان ليصبح بـ 2500، تضطر الغالبية، في ظل غياب الرسالة والكميات المخفضة، للتوجه إلى السوق السوداء، والذي إن كان متوفراً، فالمحسوبيات والاستغلال فيه حدث ولا حرج أيضاً.
وأما معاناة المواطن مع الخبز اليوم فما زالت مستمرة، فالطوابير على الأفران كبيرة، ويضطر المواطن أن يقف ساعات للحصول على مخصصاته من الخبز، وإن كان هناك معتمد ضمن الأحياء، فهذا يزيد الطين بلة، فالوقوف على الدور لا يخلو من المحسوبيات، ولا تستغرب إن كنت الأول على ذلك الدور، ولكنك لن تحصل على المخصصات، فالوكيل مسبقاً توجد لديه كمية محجوزة للأقارب والمحسوبيات وللإتجار أيضاً، فإن كانت مخصصاتك 3 ربطات خبز، ستحصل على اثنتين، والذريعة أنه لا توجد كميات كافية، إضافةً إلى أن الخبز السياحي ارتفعت أسعاره فالغالبية العظمى ليست لديهم القدرة على شرائه.

وعود وتردٍّ بالواقع الخدمي

واقع خدمي متردٍّ ووعود رغم ذلك، فقد تعهد وزير الكهرباء بتحسن ملموس للكهرباء، مترافق مع ارتفاع درجات الحرارة، ولم نلمس شيئاً من ذلك التحسن بعد!
مروة من سكان كشكول تحدثت: الكهرباء في منطقتنا لا تنقطع بعد منتصف الليل وتستمر حتى السادسة صباحاً، مع حلول شهر رمضان تغير التقنين ليصبح 3 بـ 3 بعدما كان 4 ساعات انقطاع، مع تعديل أجروه ليشمل التقنين 3 ساعات بعد منتصف الليل، بالإضافة إلى أنه خلال شهر رمضان تتناول العائلات السورية طعام الإفطار أو حتى السحور من دون كهرباء، معتبرة وزارة الكهرباء أن المواطن قد أصبحت لديه مناعة ضد تردي الواقع لخدمي، فتغض الطرف عن احترام المواطن.
ولا تقف الأمور عند ذلك الحد، فالتردي طال واقع المياه؛ فموعد ضخ المياه إلى الأحياء والمنازل يتزامن مع فترات انقطاع الكهرباء، مما يخلق أزمة مياه، تضطر المواطن لشراء صهاريج مياه غالية الثمن، وخصوصاً خلال أزمة المحروقات الخانقة. وأما بالنسبة لأزمة المواصلات، فالمنتظرون على المواقف بالجملة، رغم المحاولات الفاشلة بتغطية أزمة المواصلات من خلال النقل الداخلي وباصاته المحدودة والقليلة والتي تحتاج للصيانة، فأعطالها كثيرة، خلال السفرة الواحدة قد يتعطل الباص ذهاباً وإياباً، وخصوصاً للمناطق البعيدة وذات المرتفعات، كضاحية قدسيا ومشروع دمر، فالسائق يتلافى الوقوف عند المواقف الموجودة ضمن الطرقات المنحدرة خوفاً من تعطل الباص المفاجئ، والذي قد يقطع المئات في منتصف الطريق.
كثيرة هي الأمثلة التي لا تعد ولا تحصى اليوم، في ظل غياب حقيقي لدور الدولة بإدارة الأزمات، تاركةً المواطن يصارع وحده على مبدأ «مواطن دبر راسك».

الدولة بين الغياب والبدائل

دور الدولة الحقيقي يتمثل بتأمين احتياجات المواطنين الأساسية من غذاء ودواء ومياه وكهرباء ومحروقات و..، مدعومة، بالإضافة إلى التعليم المجاني والسكن الصحي، ودعم القطاعين الإنتاجيين الزراعي والصناعي، الداعمَين للاقتصاد الوطني الحقيقي، وفي ظل سلسلة السياسات التي اتبعتها الحكومات المتتالية من تخفيض الدعم بمختلف أشكاله، والسياسات الليبرالية وخصخصة بعض قطاعات الدولة وتراجع بعضها الآخر، أصبح دور الدولة ومؤسساتها شبه غائب نهائياً، ليحل محلها القطاع الخاص، المشوه أشد التشوه، كبار الحيتان والفاسدين من تجار ومستثمري الأزمات والحروب والسوق السوداء، ليقع المواطن تحت رحمتهم، يتحكمون به وبحاجاته التي لا يمكن الاستغناء عنها بكل مفاصل حياته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1014