مزيد من الخصخصة على حساب الأصول..
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

مزيد من الخصخصة على حساب الأصول..

أتاحت الحكومة، تحت عنوان «التشاركية»، فرصة جديدة أمام القطاع الخاص وحيتانه وفاسديه للاستثمار والتغوّل على حساب مؤسسات الدولة ومنشآتها العامة، ويمكن اعتبار الفرصة المتاحة هذه المرة واسعة بخياراتها، حيث جرى تعميم العنوان التشاركي على مستوى «المنشآت العامة المدمرة جراء الإرهاب».

فقد أكد رئيس مجلس الوزراء خلال جلسة الحكومة بتاريخ 22/12/2020: «على ضرورة تعزيز التشاركية مع القطاع الخاص لدعم الاقتصاد المحلي ودراسة إمكانية طرح منشآت عامة مدمرة جراء الإرهاب للتشاركية مع القطاع الخاص بما يخدم المصلحة العامة، ويسهم في توفير آلاف فرص العمل، إضافة إلى تعزيز واقع إيرادات الدولة من خلال تطوير العملية الإنتاجية، وتوظيف هذه الإيرادات بشكل حقيقي في تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين». وذلك حسب ما ورد على موقع الحكومة بالتاريخ نفسه أعلاه.

الشعارات الخلبية

الحكومة بتوجهها التشاركي الجديد والواسع أعلاه، تظهر وكأنها عاجزة عن إعادة تأهيل وترميم منشآتها المدمرة، وعن استثمارها مجدداً، بل وربما عاجزة عن إعادة الأدوار والمهام «العامة» التي كانت هذه المنشآت مخصصة لها وتقوم بها، لذلك لجأت إلى هذا الشكل من التشاركية مع القطاع الخاص، وهو ما يتناقض مع كل ما تسوقه من أحاديث عن دور الدولة ومؤسساتها ومهامها، وعن إعادة الإعمار، وغير ذلك من الشعارات التي يتضح أنها خلبية على أرض الواقع، لكنه بآن يتوافق مع السياسات الحكومية المتبعة.
فهل الدولة عاجزة فعلاً عن القيام بمثل هذه المهام، أم أن لحيتان المال والفساد رأي آخر؟

توجه خطير مر مرور الكرام

التأكيد الحكومي المقتضب أعلاه، بعباراته وعدد مفرداته، حول «تعزيز التشاركية مع القطاع الخاص»، هو أكثر اتساعاً بالواقع الملموس، وقد مر مرور الكرام خلال مجريات الجلسة كأحد العناوين الواردة في متنها، كما غيره من العناوين الأخرى، دون المزيد من التوضيحات، حتى أنه لم يلفت النظر لا على مستوى المختصين والمعنيين بالشأن العام من رسميين وغير رسميين، ولا على المستوى الإعلامي، حيث لم تسلط عليه الأضواء، ولم يتم تفنيد محتواه الخطير بحال وضعه في التنفيذ.

مروحة الخيارات الواسعة

في البداية، لا بد من التأكيد على أن مفردة التشاركية جرى تبنيها وتسويقها حكومياً خلال السنين الماضية كتغطية لعمليات الخصخصة المبطنة، وهو ما جرى ويجري عملياً، وإن ببطء لكن بوضوح، وقد أتت سنوات الحرب والأزمة لتحمل كتفاً عن هذه المفردة، حيث خرجت الكثير من المنشآت الحكومية العامة عن العمل والإنتاج، وتوقف بعضها الآخر لأسباب عديدة أخرى.

وبالعودة للتوجه الحكومي الجديد بهذا السياق، فإن عبارة «منشآت عامة مدمرة جرّاء الإرهاب» تعتبر عبارة واسعة وفضفاضة جداً، اعتباراً من تبعية ووظيفة ومهام المنشآت التي يجري الحديث عنها (صناعي- زراعي- خدمي..)، مروراً بمواصفاتها ومساحاتها، وليس انتهاءً بتموضعها المكاني، الذي يشمل الخارطة السورية بجميع المحافظات والمدن والبلدات والقرى التي طال الدمار أجزاء واسعة منها، بما في ذلك الكثير من المنشآت العامة طبعاً، مع التأكيد هنا على أن مفردة «مدمرة» لوحدها لها ما لها وعليها ما عليها من سعة التفسير والإسقاط، بحسب درجات ومستويات الدمار التي يجري الحديث عنها، بين الكلي أو الجزئي!.

فالحكومة، وبحسب العبارة الفضفاضة أعلاه ستفسح المجال واسعاً أمام حيتان القطاع الخاص المحظيين لاختيار ما يناسبهم من فرص استثمارية في المنشآت العامة «المدمرة» تحت عنوان «التشاركية»، والذي لخصته بمفردة «إمكانية»، والتي تعني إمكانية القطاع الخاص فقط لا غير، وما يضمنه من أرباح تحت العنوان التشاركي الواسع الجديد عبر الاستثمار بهذه المنشآت.

فمروحة الفرص الاستثمارية تحت العنوان التشاركي الجديد أعلاه تعتبر واسعة جداً، وفقاً لعبارة «منشآت عامة مدمرة جرّاء الإرهاب» الفضفاضة كما سلف.

للفساد حصته المضمونة أيضاً

العبارة الفضفاضة والواسعة أعلاه لن تفسح المجال أمام حيتان القطاع الخاص لاختيار ما يناسبهم من فرص استثمارية على حساب المنشآت العامة مضمونة الربح، كمدخل إضافي للخصخصة فقط، بل ستفسح المجال أمام شبكات حيتان الفساد من المتنفذين لتعمل بعمقها، وبما يضمن هذه الغاية أيضاً.

فبالحسابات الاستثمارية للقطاع الخاص، فإن مكان المنشأة وتموضعها الجغرافي له حساباته، ومساحتها كذلك الأمر، ودرجة دمارها لها حساباتها الأخرى، وتبعيتها لها حيثياتها، وكل من هذه التبويبات هي اعتبارات هامة لتحديد ماهيّة «الإمكانية» الاستثمارية وترجمتها في الحيز العملي، وفقاً لمبدأ «التشاركية» بالنسبة لهذا القطاع.

وقد تركت هذه الحيثيات الفضفاضة مفتوحة حكومياً بيد بعض المتنفذين عملياً، بحسب درجات تبعية المنشآت العامة التي سيتم طرحها للتشاركية كل على حدة، دون أية ضوابط واضحة، باستثناء مفردة «إمكانية»، التي يمكن اعتبارها بوابة للسمسرة والفساد بين بعض الحيتان من الطرفين، وبما يضمن المصالح المشتركة لهؤلاء، كمزيد من الخصخصة غير المعلنة.

بعيداً عن الأدوار والمهام

ما تجدر الإشارة إليه بهذا السياق أيضاً، أن الطبيعة الاستثمارية للمنشآت العامة التي ستخضع للطرح تحت العنوان التشاركي كانت أكثر غموضاً أيضاً، فهي مفتوحة بمطلقها أيضاً دون توضيح.

فلم يرد أي تحديد بأن هذه المنشآت التي ستدخل حيز الاستثمار التشاركي ستعاود نفس نشاطها ودورها الحكومي العام السابق، أم أن ذلك سيخضع للمشيئة الاستثمارية بما يضمن هوامش الأرباح فقط لا غير، بغض النظر عن الدور والمهام العامة!؟

فعبارة: «بما يخدم المصلحة العامة ويسهم في توفير آلاف فرص العمل إضافة إلى تعزيز واقع إيرادات الدولة من خلال تطوير العملية الإنتاجية وتوظيف هذه الإيرادات بشكل حقيقي في تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين»، تعتبر عبارة فضفاضة إضافية يمكن إسقاطها على أي مشروع استثماري (عام- خاص- تشاركي..)، بغض النظر عن طبيعته، فكل مشروع له طبيعته (إنتاجية أو سياحية أو خدمية أو..)، وسيوفر افتراضاً بعض فرص العمل، وسيؤمن بعض الإيرادات للدولة.

والنتيجة المتوقعة مستقبلاً استناداً للتوجه الحكومي أعلاه، أن بعض المنشآت الحكومية «المدمرة» ستدخل حيز الاستثمار التشاركي بغض النظر عن الدور والمهام وطبيعة النشاط، فيما سيبقى بعضها الآخر مدمراً إلى ما شاء الله، ربما بانتظار فرص تشاركية أخرى، فما يحكم ذلك هو الريع الاستثماري والربحي السريع للقطاع الخاص فقط لا غير!

الأصول في خطر أيضاً

التخلي الحكومي، وفقاً لنموذج الخصخصة المبطن أعلاه، ربما لن يقف عند بعض الأدوار والمهام العامة الإضافية، التي يوسع القطاع الخاص خلالها من مهامه وأدواره على حسابها!

فالمشروع التشاركي أعلاه، مع اتساعه وكل ما يلتبسه من غموض، قد يشمل التشاركية في امتلاك الأصول أيضاً، ليغدو الأمر توسيعاً لقاعدة التملك الخاص على حساب الملكية العامة، خاصة مع النموذج التفتيتي والمجزأ الذي سيجري من خلاله العمل تنفيذاً للتوجه أعلاه.

فكل منشأة من «المنشآت المدمرة» ستُدرس وتوضع بالاستثمار التشاركي على حدة، دون حدود واضحة وتفسيرية لمضمون التشاركية فيها، والتي قد تطال جزءاً أو كل الملكية، ولو على مراحل وخلال فترات زمنية تطول أو تقصر، وطبعاً ذلك لا ينفي أن ذلك سيكون بموجب عقود واضحة لضمان حقوق ومصلحة المستثمرين، وقد لا تكون معلنة كما جرت العادة غالباً بمثل هذه الحالات، ولا غرابة في ذلك، فبعض القطاعات والملكيات العامة جرى التخلي عنها رسمياً بأشكال شبيهة خلال السنوات الماضية، وهناك الكثير من الأمثلة على ذلك، ليس أولها: قطاع الاتصالات، ولا آخرها قطاعات الإسمنت والفوسفات و.. و.

بدون اختصار

يبدو من الطبيعي أن نتصور أن تخلي الحكومة عن إعادة تأهيل بعض المنشآت المدمرة، أو تأخرها عن القيام بذلك، يخدم الوصول للنتيجة أعلاه، سواء عبر التخلي عن المزيد من أدوارها ومهامها، أو التخلي عن بعض الملكيات العامة والأصول، وهذه وتلك ما هي إلّا مزيد من الخصخصة الريعية غير المنتجة، التي يدفع إليها تحالف حيتان المال والفساد، والتي تتوافق عملياً مع جملة السياسات الليبرالية المتبعة منذ عقود وحتى الآن، والتي لا علاقة لها بالإمكانات الفعلية المتوفرة لدى الدولة من عدمها.

وربما أهم ما تجدر ملاحظته بهذا السياق هو أن حيتان المال والفساد، وبعد كل ما استحوذوا عليه من حصة كبيرة من الأرباح، ومن حصص واسعة من الملكيات والأصول، يبدو أنهم باتوا على عجلة من أمرهم في الاستحواذ على ما يمكن الاستحواذ عليه من أصول وملكيات عامة أيضاً.

فهؤلاء الحيتان الكبار، الجشعون والمنفلتون، وبعد أن استنفذوا تقريباً كل فرص النهب والفساد المتاحة على حساب المواطنين (بما في ذلك استحواذهم على بعض ملكياتهم تحت ضغط الحاجة)، وعلى حساب الاقتصاد الوطني ومصلحته، عبر استحواذهم على حصة أكبر وأكبر فيه، بما في ذلك من خلال ضرب القطاعات الإنتاجية فيه (العام والخاص على السواء)، وخاصة خلال سني الحرب والأزمة وبذريعتها، يبدو أنهم يسعون إلى الاستحواذ على مزيد من الملكيات العامة أيضاً، برعاية وغطاء حكومي.

القطع مع السياسات لم يعد كافياً

ربما أصبح الحديث عن السياسات الليبرالية ومخاطرها وآثارها الكارثية أكثر وضوحاً خلال سني الحرب والأزمة، خاصة مع ما وصلت إليه من تكريس لرعاية مصالح شريحة حيتان المال والفساد الكبار، على حساب مصالح وحقوق الغالبية من السوريين، كما على حساب الاقتصاد الوطني والملكية العامة والمصلحة الوطنية.

فالمخاطر على المصلحة الوطنية لم تعد تتمثل بالسياسات المتبعة فقط، بل بهذه الشريحة المتحالفة بالذات، ودورها التخريبي أيضاً.

على ذلك، ربما لم يعد طرح شعار القطع مع السياسات الليبرالية كافياً، كي تستعيد الدولة دورها ومهامها الوطنية العامة المفترضة، بل بات من الضروري أيضاً وضع اليد على ممتلكات هؤلاء الحيتان، التي حصلوا عليها نهباً وفساداً وتخريباً طيلة العقود الماضية، وأهما خلال سني الحرب والأزمة، ومحاسبتهم، ولا مبالغة بالقول: إن هذا الإجراء لا بد منه من أجل الخروج من الأزمة الوطنية العامة، ومسرعاً بهذا الاتجاه أيضاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
998