أزمة البنزين.. لمن الكلمة والقول الفصل؟
لم تسفر كل الوعود المقطوعة بشأن أزمة البنزين الحالية عن أية حلول حتى الآن، وكل ما جرى تطبيقه رسمياً بهذا الصدد: هي محاولة التخفيف من شدة الازدحام على الكازيات، والتي لم تسفر عن نتائج إيجابية كذلك الأمر، وبالعمق تخفيض إضافي للدعم عن المادة.
فأزمة البنزين تفاقمت وتزايدت، كما تزايدت على هامشها عوامل الاستغلال والفساد، حيث استعرت السوق السوداء على المادة، وتزايدت مظاهر المحسوبية والوساطة والاستقواء أمام الكازيات.
الأزمة وشرعنة الإجراءات
والسوق السوداء
أزمة البنزين الحالية تفاقمت منذ ثلاثة أشهر تقريباً، وقد بدأت في بعض المحافظات، ثم ما لبثت أن شملت المحافظات كافة، وقد جرى الحديث بداية: أن السبب هو فتح الطرق بين المحافظات بعد فترة الحظر بنتيجة إجراءات الكورونا، بالتوازي مع الحديث عن تزايد حركة الآليات مع موسم السياحة، ثم الحديث عن توقف مصفاة بانياس من أجل عمليات الصيانة، وبأن الأزمة ستحل بمجرد إعادة إقلاع المصفاة، وطبعاً جرى التنويه إلى قلة التوريدات من المادة ربطاً مع العقوبات والحصار.
ربما تجدر الإشارة إلى أن أزمة البنزين، والمشتقات النفطية عموماً، تعتبر من الأزمات المستمرة والمزمنة، حتى مما قبل سني الحرب والأزمة، لذلك لن نغوص في متاهات التبريرات المقدمة حيالها وتفنيدها، حيث تساقطت هذه التبريرات تباعاً، بما في ذلك ما يتعلق بالانفراج بمجرد الانتهاء من عمليات الصيانة لمصفاة بانياس، فالأزمة ما زالت مستمرة ومتفاقمة حتى الآن، لكن ربما سنقف عند الإجراءات المتخذة على أنها حلول لهذه الأزمة، مع نتائجها المستثمرة فساداً واستغلالاً.
فالأزمة، ومع طول مدة استمرارها، شرعنت كل الإجراءات والظواهر التي نشأت بسببها وعلى هامشها وبعمقها، اعتباراً من إجراءات تخفيض الدعم على المادة، مروراً بالطوابير الممتدة التي أصبحت كأنها طبيعية، وليس انتهاءً بشبكات الاستغلال والسوق السوداء التي كبر حجمها وتضخم ودورها.
تخفيض الدعم المتتابع
في عام 2018 تم فرض التعامل مع البطاقة الذكية من أجل توزيع وبيع البنزين، وذلك من أجل تحديد كميات التعبئة بكل آلية، باعتبار أن المادة «مدعومة» ويجب أن يوجه الدعم لمستحقيه، حيث تم وضع سقوف للكميات المسوح التعبئة بها لكل آلية بحسب نوعها (عامة للنقل الجماعي- خاصة).
بعد عام، أي: في 2019، تم إدخال نظام الشرائح بحسب سعة محرك الآلية، حيث تم إيقاف تزويد الآلية التي يتجاوز سعة محركها 200سم، بالإضافة إلى كل فرد مسجل باسمه أكثر من آلية واحدة خاصة، وغيرها من الإجراءات الأخرى.
في عام 2020 تم تخفيض كميات التعبئة بكل آلية مع وضع هامش زمني بين التعبئة والأخرى بحسب نوع الآلية، وكذلك الكثير من التعليمات التي ركزت على إجراءات التعبئة وضبطها.
طبعاً تخلل كل ذلك إجراءات إضافية، مثل: «الصبغة» التي تم الترويج لضرورتها منعاً من تهريب المادة، وصولاً إلى تعديل أسعار المادة بحسب النوع والمواصفة، وأخيراً قرار رفع سعر الأوكتان 95، لكن كل تلك الإجراءات التي ركزت على تخفيض الدعم المتتالي عملياً لم تحل الأزمة، بل فاقمتها، بدليل استمرار الطوابير، واستعار السوق السوداء.
الالتفاف على النقص بإجراءات قاصرة
الواضح، أن التعامل مع المشكلة من خلال إجراءات تخفيض الدعم لم يرافقه توفير الكميات الكافية من المادة عبر الكازيات، باعتبار أن المشكلة الأساسية تتركز في هذا الجانب بداية، لذلك فإن مشكلة الازدحام والطوابير لم تحل كما يجب، بل تزايدت مع تزايد نشاط السوق السوداء التي عكفت على توفير جزء من نقص الكميات بطرقها الخاصة، تهريباً أو فساداً، وهذه وتلك كانت وسيلة لاستغلال حاجة المواطنين، حيث وصل سعر ليتر البنزين، بغض النظر عن مواصفته ونوعه، إلى 2000 ليرة، وأحياناً إلى 3000 ليرة، استغلالاً للحاجة، وبحسب المكان والزمان.
والنتيجة، أن الدعم المتآكل على المادة لم يحل لا مشكلة الازدحام والطوابير ولا مشكلة ظهور السوق السوداء، بل على العكس فإن خسارة الدعم وتخفيض كميات التعبئة وزيادة المدة بين التعبئة والأخرى كانت فرصة مواتية لزيادة نشاط واستحكام السوق السوداء، التي فرضت وجودها كسوق موازية دائمة، بشبكتها العاملة وآليات عملها.
إخفاء الطوابير لا يعني إنهاء المشكلة
ما جرى على مادة البنزين خلال السنوات الطويلة الماضية وحتى تاريخه، وما تم اتخاذه من إجراءات حتى الآن، يذكرنا بما جرى على مادتي مازوت التدفئة والغاز المنزلي، وخاصة فيما يتعلق بتخفيض الدعم، وربما الفارق حتى الآن أن الإجراءات المتخذة بشأن هاتين المادتين أخفت طوابيرها فقط، لكن لم تحل مشكلتها، بينما الحلول المعمول بها بشأن مادة البنزين لم تخف الطوابير حتى الآن.
فالسوق السوداء على هاتين المادتين، وبسبب استمرار أزمتهما دون حلول نهائية لها، أصبحت تعمل بكل أريحية وبعيداً عن الفضائح التي كانت تتمثل بالطوابير كشكل واضح لهذه الأزمات، فالرسالة الذكية أثبتت جدواها بهذا الصدد، حيث تمت التغطية على الأزمة بدلاً من حلها، مع غض الطرف طبعاً عن شبكات السوق السوداء العاملة في عمقها استغلالاً لحاجات المواطنين منها.
فمازوت التدفئة لم يجر توزيعه حتى الآن كما هو مفترض وبحسب الوعود الرسمية، وأسطوانة الغاز المنزلي عبر رسائل الذكاء أصبحت كل شهرين وقد تم تجاوز هذه المدة حالياً، وكذلك لم تُحل أزمة البنزين المزمنة، ويبدو ألّا حلول قريبة لها، وذلك لسبب أساسي، أن الحلول المقترحة والتي يتم تنفيذها تتعامل مع الجانب الشكلي للأزمة، وليس مع جوهرها وأسبابها الحقيقية، حالها كحال بقية الأزمات المزمنة الأخرى.
فهل سيتم تعميم آلية الرسالة الذكية لتعبئة البنزين مثلاً للهروب من حل الأزمة من جذورها، وللتغطية على استغلال السوق السوداء وشبكاتها واستغلالها، أم إن فضائح الطوابير هي التي ستستمر، باعتبار أن آلية الذكاء عبر الرسائل قد تكون غير مجدية بالنسبة لهذه المادة؟
الحيتان أكبر من الدولة
إذا كانت النوايا واضحة بشأن رفع الدعم عن المشتقات النفطية تباعاً، وهو ما جرى ويجري بالتوافق مع السياسات الليبرالية المتبعة منذ عقود بشأن الدعم عموماً، والتي تزايدت وتسارعت خلال سني الحرب والأزمة وبسببها كذريعة مستجدة، فإن الصمت عن تغوّل الفساد وعوامل الاستغلال وعن شبكات السوق السوداء، أصبح أكثر وضوحاً، ولم يعد من المجدي دفن الرأس بالرمال حياله!
فالمشكلة بالكميات غير الكافية من المشتقات النفطية، التي نشأت على هامشها السوق السوداء، وهي ليست جديدة وليست وليدة الأزمة والعقوبات، كما يريد البعض أن يصورها، بل عمرها عقود، وربما الأزمة والعقوبات والحصار كانت فرصة نهب واستغلال إضافية كان المستفيد منها: شبكات الفساد والسوق السوداء، وحيتان الاستيراد والتهريب الكبار، الذين أصبح لهم الكلمة وقول الفصل على ما يبدو، بدليل استمرار الأزمات، بما فيها المفتعل، دون حلول، وكأن هؤلاء أكبر من الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وإمكاناتها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 988