مخيم الهول.. وفيات  موثقة ومسؤوليات مُغيبة
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

مخيم الهول.. وفيات موثقة ومسؤوليات مُغيبة

«وفاة ثمانية أطفال في مخيم الهول في شمال شرق سورية في أقل من أسبوع»، كان هذا عنوان بيان صدر عن المديرة التنفيذية لمنظمة «اليونيسف» بتاريخ 13/8/2020، الذي بيّن أسباب الوفيات من الناحية الصحية، متضمناً بعض البيانات والمعطيات الإضافية عن الواقع البائس للأطفال في المخيم.

لكن هل ستغير حوادث الوفاة التي تم رصدها عبر بيان المنظمة مؤخراً من الواقع البائس للمخيم والمقيمين فيه؟!

وهل تضمّن البيان الإشارة للأسباب الحقيقية لاستمرار البؤس، وبعهدة من؟ وعلى من تؤول مسؤولية استمرار الواقع المزري في هذا المخيم، بما في ذلك حالات الوفيات الأخيرة؟

تفاصيل المأساة

المأساة الأخيرة في المخيم التي توقفت عندها «اليونيسف» تمثلت بوفاة ثمانية أطفال دون سن الخامسة خلال مدة أسبوع واحد فقط، وقد بدأ البيان بالعبارة التالية: «تُعرِب اليونيسف عن قلقها العميق إزاء التقارير بشأن وفاة ثمانية أطفال دون سن الخامسة في مخيم الهول في شمالي شرق سورية خلال أقل من أسبوع»، وذلك حسب ما ورد عبر الموقع الرسمي للمنظمة.

أما عن أسباب الوفاة فقد ورد عبر البيان ما يلي: «وقعت الوفيات خلال الفترة بين 6– 10 آب/ أغسطس، وقد حدثت أربع وفيات بسبب مضاعفات مرتبطة بسوء التغذية، في حين حدثت الوفيات الأخرى بسبب الجفاف الناجم عن الإسهال، وقصور في القلب، ونزيف داخلي، ونقص السكر في الدم».

ويضيف البيان: «ما زال يقبع في مخيم الهول قرابة 40,000 طفل ينحدرون من أكثر من 60 بلداً، وهم يفتقرون للخدمات الأساسية ويضطرون لتحمل قيظ الصيف والصدمات الناجمة عن العنف والتشرّد».. «وقد تفاقم هذا الوضع العصيب بسبب جائحة كوفيد- 19، وما نتج عنها من قيود على الحركة وإجراءات العزل. وقد حدثت مؤخراً إصابات مؤكدة بين العاملين في المخيم، مما أدى إلى تعليق بعض خدمات الصحة والتعليم، وتقليص مؤقت في عدد العاملين داخل المخيم..».

تقارير سابقة

مخيم الهول، يعتبر من أكبر المخيمات وأقدمها في المنطقة، والواقع المأساوي فيه ليس جديداً، والتقرير أعلاه ليس الأول ولن يكون الأخير، فقد سلطت العديد من التقارير- الصادرة عن المنظمات الأممية سابقاً- الأضواء على الكثير من أوجه المعاناة فيه.

فقبل البيان أعلاه كان قد صدر تقرير عن «مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في سورية- أوتشا» بتاريخ 26/7/2020 حول واقع المخيم، متضمناً الكثير من المعلومات التي تشير إلى بؤس ما يعيشه القاطنون فيه، وخاصة وسط انتشار كورونا.

وبحسب تقرير «أوتشا» أعلاه: «يبلغ عدد المقيمين في المخيم 65,406 مقيم، نسبة 94% منهم هم من النساء والأطفال، وتبلغ نسبة الأطفال دون 12 عاماً من هؤلاء تبلغ 53%».

وفي التفصيلات فإن: «نسبة 47% من المقيمين هم من الجنسية العراقية، بواقع 30,573 مقيم، ونسبة 38% هم من السوريين بواقع 24,914 مقيم، ونسبة 15% من جنسيات مختلفة أخرى بواقع 9,912 مقيم».

وقد أشار التقرير إلى أن «انقطاع المياه المتكرر خلال الأشهر الماضية يعرض صحة سكان المخيم للخطر خاصة وسط انتشار فيروس كورونا».

وقد ورد على موقع الأمم المتحدة بتاريخ 8/3/2019 تحت عنوان: «وفاة ثلاثة رضع في الطريق إلى مخيم الهول، والأمم المتحدة توسع جهود الاستجابة الإنسانية»، ما يلي: «مع وصول أكثر من ثلاثة آلاف شخص إلى المخيم في حالة مزرية الليلة الماضية، معظمهم من النساء والأطفال، بلغ إجمالي عدد السكان أكثر من 65 ألف شخص». وقال المتحدث باسم الأمين العام: «هناك مخاوف كبيرة بشأن صحة سكان المخيم الهشة، حيث توفي حوالي 100 شخص منذ أوائل ديسمبر الماضي في طريقهم إلى الموقع أو بعد وقت قصير من الوصول. ثلثا هؤلاء الأشخاص الذين لقوا حتفهم من الأطفال دون سن الخامسة، وأهم أسباب الوفاة انخفاض درجة حرارة الجسم والالتهاب الرئوي والجفاف ومضاعفات سوء التغذية».

وقد تناولت بعض التقارير الصحفية واقع المخيم أيضاً، حيث ورد في أحد التقارير أن: «عام 2019 كان قاسياً على المقيمين فيه لانعدام أبسط وسائل الحياة، خاصة للأطفال الذين عانوا سوء التغذية وتعرضوا لأمراض كثيرة سببت فقدان 370 طفلاً لحياتهم خلال العام الماضي، ومجمل الذين فقدوا حياتهم أكثر من 700 شخصاً، بالإضافة إلى الأطفال، كانوا من المرضى وكبار السن.. ولا تزال المعاناة على حالها بانعدام النظافة وقلة الخدمات وتجاهل المنظمات والجمعيات للواقع المأساوي».

بقي أن نشير أن المخيم استقبل النازحين الهاربين من المناطق التي سيطر عليها «داعش» عند توسع نشاطه الإرهابي «المدعوم أمريكياً» في كل من العراق وسورية، وكانت موجات النزوح هذه هي الأكبر، تلتها موجات نزوح أخرى إليه على إثر المعارك الدائرة لطرد هذا التنظيم من مناطق سيطرته في الأراضي السورية، ثم أتت موجات نزوح جديدة مع العمليات العسكرية للاحتلال التركي في بعض المناطق أيضاً.

بيان توصيفي جديد ليس إلا!

لا شك أن البيان الأخير أعلاه سلط الضوء على بعض أوجه الواقع المأساوي الذي يعيشه المقيمون بهذا المخيم، وخاصة الأطفال، لكن ذلك سيكون ذا طابع مؤقت، فسرعان ما ستخبو الأضواء ويطوي النسيان المخيم ومآسيه، كما جرت العادة مع غيره من البيانات والتقارير التي تصدر عن المنظمات الأممية التي تُعنى بالشأن الإنساني.

بالمقابل، فإن مضمون البيان والواقع المأساوي للمخيم سيدخلان حيز الاستثمار السياسي والمالي وبازاراته بين القوى الفاعلة، المحلية والدولية، بما في ذلك المنظمات الأممية نفسها، على حساب المزيد من الشقاء على الجانب الإنساني واستمراره، وسيضاف مضمون هذا البيان بالنتيجة، بكل ما فيه من توصيف للبؤس، إلى ما سبقه من بيانات توصيفية شبيهة، جرى زجها في معترك المساومات على حساب استمرار المآسي نفسها، التي ستستمر دون حلول جدية ونهائية لها.

تغييب المسؤوليات

(مضاعفات سوء التغذية- الجفاف الناجم عن الاسهال- قصور القلب- نزيف داخلي- نقص سكر الدم) جميعها أسباب صحية مباشرة للوفيات التي تم تسجيلها بين الأطفال، بحسب مضمون البيان.

بالمقابل، فقد جرى الاعتراف بالافتقار للخدمات الأساسية في المخيم، وكذلك بتداعيات جائحة «الكورونا» ونتائجها التي تمثلت بوقف بعض الخدمات الصحية في المخيم، مع الإشارة من بعيد لبعض أوجه القصور الأخرى.

لكن ماذا عن مقدمات هذه الأسباب، وبعهدة من، ومن المسؤول عن نتائجها بما آلت إليه من مآسٍ ووفيات؟!. وهل تكفي عبارات الإعراب عن الانشغال والأسف بهذا الصدد؟!

فكل ذلك لم يتم التطرق له في متن التقرير، رغم ورود عبارة: «إن وفاة أي طفل هي مأساة. وتتعاظم المأساة عندما تكون الوفاة ناجمة عن أسباب يمكن منعها»!.

والسؤال بعد التأكيد على «المأساة»: كيف «يمكن منعها»، أو الحد من تكرارها، في ظل تغييب المسؤوليات، وغض الطرف عن المتسببين المباشرين بها وإدانتهم؟!

الأمريكي المُغيب عن المشهد!

مع عدم تغييب مسؤولية «الإدارة الذاتية» كونها المشرف التنفيذي على المخيم، ومع عدم تغييب مسؤولية المنظمات، الدولية والأممية أو المحلية، التي تتغنى بعملها ونشاطها ودورها الإنساني، لكن بالمقابل فإن ذلك لا يعني أن نتوه بضياع المسؤوليات المباشرة والأساسية، والتهرب منها ومن استحقاقاتها، الإنسانية والسياسية.

فالأمريكي الغائب عن المشهد، عبر التقارير الأممية والإعلامية، كان وما زال هو المسؤول الأول والأخير عن كل الموبقات والمآسي في المنطقة، بحكم الهيمنة والسيطرة المفروضة غزواً وبالقوة عليها، بما في ذلك ما جرى ويجري في مخيم الهول أو سواه من المخيمات فيها.

ولئن تم تغييب هذه المسؤولية عن التقارير الأممية، بحكم الهيمنة الأمريكية المزمنة عليها، فإن ذلك لا يعني إعفائه منها وإدانته عليها.

وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن المخيم يضم الكثير من عناصر تنظيم «داعش» وأفراد أسرهم، المُستقدمين من /60/ دولة بحسب التقرير أعلاه، والجميع يعلم مدى الارتباط الوثيق والموثق بين «داعش» والأمريكي، وبشهادة بعض الأمريكيين أنفسهم على ذلك، بالإضافة لكل المعطيات على الأرض كذلك الأمر، بما في ذلك عمليات الإجلاء التي نفذها الأمريكي لبعض عناصر «داعش» خلال الفترات الماضية، ناهيك عن تحريك هذا التنظيم الفاشي بمهام قتالية وتخريبية كلما استدعت المصالح الأمريكية ذلك، سواء في سورية أو العراق، أو في غيرها من الرقع الجغرافية خارج المنطقة أيضاً.

الحل السياسي بوابة العبور

بعد كل ذلك يبدو من الطبيعي القول: إن خروج الأمريكي يعتبر أحد الشروط الرئيسة للحد من الكثير من المآسي والويلات، بل والخلاص منها ومن تداعياتها، ليس في المنطقة التي يسيطر عليها بحكم القوة فقط، بل وعلى مجمل الخارطة الوطنية السورية بحكم تشابك تداخلاته وعلاقاته، لكنه ليس شرطاً كافياً.

فالحل السياسي الناجز وفقاً للقرار 2254، يعتبر الشرط الأساسي الذي لا بد منه، ليس لاستعادة السيادة الوطنية على كامل الجغرافيا السياسة لسورية، مع ما يعنيه ذلك من خروج للقوات الأجنبية الغازية والمحتلة بمختلف مسمياتها وتبعياتها، بل للخروج من الأزمة الوطنية العميقة الشاملة التي يعيش كارثتها عموم السوريين، عبر التنفيذ الكامل لهذا القرار، مع ما يعنيه ذلك من استعادة الشعب السوري لحق تقرير مصيره، واستعادة كامل سيادته على كامل ترابه الوطني، بعيداً عن كل أشكال الهيمنة والتبعية، وبما يحقق مصالحه ومصالح الوطن.

تقارير هيولية بذريعة الحياد

تعكف المنظمات الأممية المختلفة، التي تُعنى بـ«الجانب الإنساني» في عملها، على رصد واقع التجمعات البشرية وشرائح الاستهداف التي تُكنى بها، عبر تقاريرها الدورية المشفوعة بالكثير من البيانات والمعطيات، وخاصة ما يتعلق بتوثيق المآسي والكوارث المستمرة وغير المنتهية، والغاية الأساسية من كل ذلك هي العمل على جمع التمويل من المانحين الدوليين لوضعها في محفظة وعهدة هذه المنظمات، لتقديمها كمساعدات تصرف على هذه التجمعات أو الشرائح المستهدفة عبر برامجها التنفيذية المخططة، وبهامش تلك التقارير ربما ترد بعض الاقتراحات والتوصيات أحياناً، غير الملزمة طبعاً، والتي تقع بعهدة الجهات المؤثرة والفاعلة، دون تحميلها أية مسؤولية أيضاً، بذريعة «الحياد» المصطنع لدور هذه المنظمات المهيمن عليها أمريكياً من الناحية العملية، بل والمسيرة من قبلها!.

والتقرير أعلاه، لم يخرج عن القاعدة السابقة، فقد ورد في نهاية التقرير ما يلي: «لقد طال انتظار إيجاد حل أطول أجلاً لهذا الوضع. ومن حق الأطفال في مخيم الهول، مثل سائر الأطفال المتأثرين بالنزاعات، الحصول على مساعدة إنسانية. ويحق للأطفال المولودين لآباء من المقاتلين الأجانب أن يحصلوا على ضمانات، بما في ذلك الوثائق القانونية ولم شملهم بأسرهم وإعادتهم إلى أوطانهم، عندما يمثّل ذلك مصلحتهم الفضلى. ويحق لجميع الأطفال الحصول على الحماية من التأثيرات المدمرة التي تتسبب بها الجائحة على بقائهم وتعلّمهم وحمايتهم».

هذه النهاية الهيولية، المليئة بالمحتوى الإنساني المائع باسم الطفولة، والحديث عن «الأطفال المولودين لآباء من المقاتلين الأجانب»، لم تغفل فقط عن تحديد المسؤوليات، بظل امتناع الكثير من الدول عن «إعادة هؤلاء الأطفال إلى أوطانهم»، ولا عن وقف استقدام المقاتلين أنفسهم والمسؤوليات الدولية حيالها، وخاصة الأمريكية، بل وأغفلت تحديد ماهية «الحل الأطول أجلاً»، الكفيل بوضع حد للمعاناة، وإنهاء الكارثة الإنسانية عموماً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
979
آخر تعديل على الإثنين, 17 آب/أغسطس 2020 12:54