كورونا.. الإمكانات محدودة والاستثناءات طبقية!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

كورونا.. الإمكانات محدودة والاستثناءات طبقية!

«يا بلاش»، 200 دولار إضافية على سعر تذكرة السفر للقادمين إلى سورية، لقاء الإقامة ليلة واحدة في فندق إيبلا الشام، مع إجراء مسحة سريعة لفحص «بي سي آر» الخاص بـ «كورونا» تصدر نتيجته خلال 24 ساعة، توفر على بعض القادمين، المليئين طبعاً، مشقة الانتظار بالحجر مدة 14 يوماً في مركز الحرجلة.

لكن، إياكم والحديث عن السياسات والممارسات الطبقية التمييزية، فهذا الكلام مغرض ولا أساس له من الصحة، وإياكم والحديث عن الدولار «المغضوب»، فالويل والثبور وعظائم الأمور بانتظاركم، اعتباراً من تهمة تمويل الإرهاب، مروراً بتهمة المضاربة بالعملة، وصولاً إلى تهمة الإضرار بالاقتصاد الوطني، فجلّ ما في الموضوع: أن أولي الأمر اعتبروا أن الكورونا فرصة متاحة لتدفق القطع الأجنبي إلى الخزينة العامة!

الأزمات تكشف المستور من الموبقات..

يُقال: إن الأزمات ترفع الغطاء عن المستور من الأخطاء المتراكمة والسلبيات والموبقات، وبالعامية، يُقال: «إذا اختلف اللصوص بانت السرقة»، وفي واقعنا خلال سني الحرب والأزمة، تكشّف الكثير مما هو مستور ومغطى من أخطاء وموبقات وسلبيات متراكمة منذ عقود، سواء على المستوى العام أو على المستوى الفردي، وسواء أكان ذلك رسمياً أو خاصاً، وكذلك، شاهدنا وسمعنا عن فضائح صراعات وخلافات اللصوص والفاسدين، كبارهم وصغارهم.
لكن أكثر ما ظهر من موبقات، هو ما جرى ويجري تكريسه من فرز طبقي عميق في واقعنا الاقتصادي الاجتماعي، جرّاء ممارسات النهب والفساد والاستغلال المدعوم بالسياسات الليبرالية ذات الجوهر الطبقي، والتي زاد توحشها خلال سني الحرب والأزمة، بما في ذلك طبعاً ما تجلى من تمييز فجّ على هذا المستوى، سواء من خلال السياسات العامة المتبعة، أو من خلال بعض القرارات الرسمية، وممارسات المحسوبية والوساطة، ناهيك عن أشكال الاستقواء التي لا تخرج عن دائرة الفرز والتمييز والنفوذ عملياً.
فأزمة الكورونا التي نعيشها مع آثارها وتداعياتها ونتائجها، ونحن ما زلنا في عمق أزمتنا الوطنية العامة التي تجاوز عمرها 9 سنوات، وبالتوازي مع تداعياتها ونتائجها السلبية العميقة هي الأخرى، أظهرت إلى السطح الكثير من السلبيات التي تعتري حياتنا، وبأبشع أشكالها وقاحة وبؤساً. فقد أوضحت واقع ما وصلت إليه المنظومة الصحية من تراجع وترهل، وما تعانيه من صعوبات ومعيقات، وما وصلت إليه من استنزاف كوادرها الطبية العاملة، والأمثلة على ذلك أصبحت أكثر من أن تعد!
أمّا الفاقع في الأمر، فهو ليس الاعتراف بعدم توفر الإمكانات لدى القطاع الصحي، بل بتجيير المتوفر والمحدود من هذه الإمكانات لمصلحة من يملك «المال والجاه والثروة والنفوذ»، وحجبها عمن لا يملك!

رسمياً الدولار يطغى على المجانية

أوضح وزير الصحة، حول تحاليل تشخيص الإصابة بكورونا، بحسب سانا بتاريخ 6/4/2020، أنه: «تم التوسع بالمخابر التي تجري هذا النوع من التحاليل للمسحات الأنفية والبلعومية، التي تؤخذ من أشخاص مشتبه بإصابتهم بالفيروس، أو لديهم أعراض مشابهة في مختلف المحافظات، حيث تم وضع مخبر في كل من حمص وحلب واللاذقية، إضافة إلى مخبر الصحة في دمشق، مبيناً: أن عدد التحاليل التي تجرى يومياً يصل إلى 100 تحليل، ويتم العمل لرفع عددها لتصل ما بين 200 و300 تحليل يومياً، وتظهر نتائج هذا التحاليل في اليوم نفسه، وهي مجانية».
بالمقابل، فقد بينت وزارة الصحة، بحسب موقع الحكومة بتاريخ 22/7/2020، أن: «إجراء المسحات الخاصة بتشخيص مرض كورونا للراغبين بالسفر يشمل جميع الأعمار، بمن فيهم الأطفال»، وأضافت: إن «خطوات إجراء المسحة تكون بذهاب الشخص الراغب بالسفر إلى أحد المراكز المعتمدة، مصطحباً معه جواز السفر والفيزا وبطاقة السفر للحصول على إحالة إلى مصرف سورية المركزي، ودفع قيمة الخدمة لديه بما يعادل 100 دولار بالليرة السورية، حسب تسعيرة المصرف للمواطنين السوريين و100 دولار لغير السوريين، ثم العودة إلى المركز الطبي مع نسخة من الإشعار المالي من المصرف المركزي لإجراء المسحة».
ولاحقاً، ورد عبر إحدى الصحف المحلية بتاريخ 29/7/2020، ما يلي: «أكد عدد من المسافرين الذين وصلوا يوم أمس من الشارقة: أنهم سددوا مبلغ ٢٠٠ ‏دولار إضافية على سعر تذكرة السفر، وذلك لقاء حجرهم ليلة واحدة في فندق إيبلا ‏الشام، واجراء مسحة «سريعة» تصدر نتيجتها خلال ٢٤ ساعة، وذلك بدلاً من ‏الحجر ١٤ يوماً في مركز الحرجلة». وأضافت الصحيفة: «أكد مصدر في وزارة الصحة، أن مبلغ مئتي دولار يسدد حصراً عند ‏شراء تذكرة السفر في الدول التي يتم إجلاء الرعايا السوريين منها، وأن هذا ‏الإجراء- الذي وافقت عليه اللجنة المكلفة بالتصدي لفيروس كورونا- جاء بعد قيام عدة ‏شركات ووكالات معتمدة تعمل في مجال توريد المعدات الطبية باستيراد وبيع ‏الكيتات اللازمة لوزارة الصحة، التي لا تزال تعاني حصاراً أميركياً وأوروبياً ‏يمنعها من استجرار الكيتات مباشرة لمصلحتها».‎
وفي بيانها المؤرخ بتاريخ 30/7/2020، أكدت وزارة الصحة أن: «الإصابات المسجلة في سورية هي للحالات التي أثبتت نتيجتها بالفحص المخبري (بي سي آر) فقط، فيما هناك حالات لا عرضية، كما أن الوزارة لا تملك الإمكانات، في ظل الحصار الاقتصادي الجائر المفروض على البلاد، الذي طال القطاع الصحي بكل مكوناته، لإجراء مسحات عامة في المحافظات، ما يبرز ضرورة الالتزام بإجراءات الوقاية الفردية لضبط الانتشار وحماية الجميع».

المنظومة هشّة والإمكانات مُجيّرة طبقياً

السرد السابق للبيانات الرسمية، يوضح كيف تحولت بعض المسحات «المجانية» بقدرة قادر إلى مأجورة وبالدولار، وصولاً للاعتراف بعجز الإمكانات، مع التأكيد على الجانب الفردي في الوقاية بالنتيجة، وما بين هذا وذاك كيف تم تجيير الإمكانات المحدودة المتوفرة «في ظل الحصار الاقتصادي الجائر المفروض على البلاد» لمصلحة من يملك المال فقط، لا غير، وضمناً تخفيف الأعباء عن هؤلاء من فترة الحجر الطويلة طبعاً!
والنتيجة: أن مفردة «المجانية» أُفرغت من محتواها، وجرى التركيز على فترة الحجر الكفيلة بمعرفة المصاب من غير المصاب على المستوى العملي، بدون نفقات التشخيص والتحاليل، وغيرها من النفقات الأخرى.
وطبعاً كل ذلك، ولم نتحدث عن واقع المشافي الحكومية في هذه الفترة، وما تواجهه من صعوبات، في ظل تزايد الضغوط عليها بالتوازي مع تراجع الإمكانات، مع عدم تغييب أوجه معاناة الكادر الطبي في هذه المرحلة، وصولاً إلى استنزافه، ليس كطاقات فقط، بل كوجود، ولعل أعداد المصابين والوفيات ضمن هذا الكادر تعتبر من المؤشرات الخطرة، التي تضاف إلى كل مؤشرات الهشاشة التي تعاني منها المنظومة الصحية، والقطاع الصحي عموماً، والتي يدفع ضريبتها المفقرون بالنتيجة، كمآل طبيعي للإجراءات والسياسات الرسمية ذات الجوهر الطبقي.

استشراف مستقبلي لنتائج الفرز الطبقي

واقع الحال، يقول: إن الغالبية من المفقرين أصبحوا عاجزين عن تحمّل تكاليف أمراضهم وعلاجها والاستشفاء منها، بسبب الواقع الاقتصادي المرير الذي يعيشونه، وخاصة أصحاب الأمراض المزمنة والخطرة من هؤلاء، وفي ظل التراجع والتردي الذي يعاني منه القطاع الصحي العام، ومع الكورونا تزايد العجز لدى هؤلاء، كما تزايد الضغط على المشافي الحكومية واستنزفت إمكاناتها لحدودها القصوى.
فاذا كانت مظاهر الفرز الطبقي بدأت تتكرس رسميا،ً بهذا الشكل الفج على مستوى اختبارات الكشف عن المرض حتى الآن، وبهذه التكاليف الدولارية المرتفعة، في ظل «قيام عدة ‏شركات ووكالات معتمدة تعمل في مجال توريد المعدات الطبية باستيراد وبيع ‏الكيتات اللازمة لوزارة الصحة»، فكيف سيكون الحال لاحقاً عند الحديث عن اكتشاف العلاج له، أو التوصل إلى اللقاح الخاص به، خاصة مع استمرار ذرائع العقوبات والحصار وبوابات الاستغلال الإضافية المفتوحة تحت عناوينها، وعلى أيدي الشركات والوكالات نفسها، ذات الغايات الربحية طبعاً؟.
لا شك، أن التكاليف الدولارية المتوقعة لاحقاً، للعلاج واللقاح، وفقاً للنهج المتبع حالياً، لن تكون متاحة إلا بأيدي القلة من أصحاب المال والجاه، ممن أثروا استغلالاً وفساداً، وما زالوا، بينما ستبقى غير متاحة للغالبية من المفقرين، الذين سيستمرون بمعاناتهم من الأمراض، والموت بسببها!

معلومات إضافية

العدد رقم:
977
آخر تعديل على الإثنين, 03 آب/أغسطس 2020 15:16