مزارعو طرطوس..  لجان وزارية و«العوض على الله»!

مزارعو طرطوس.. لجان وزارية و«العوض على الله»!

هناك ظاهرة ملفتة للنظر بما يخص العاملين في قطاع الزراعة بشقيه (النباتي والحيواني) في محافظة طرطوس. فبالرغم من أن العائلة تعمل كاملة (تقريباً) في عملية الإنتاج، ووقت العمل مفتوح، وبالرغم من غزارة الإنتاج، وأسعاره المرتفعة بالسوق، تجد الديون تلاحقهم، وبالكاد في أحسن الأحوال يستطيعون تأمين ضرورات حياتهم المعيشية بحدودها الدنيا.

في المقابل هناك فئات تغتني وتنمو بشكل طفيلي على طرفي عملية الإنتاج، وقانون السوق ( بآلياته المفصّلة) هو الذي يحكم تلك الآلية، سواء كانت هذه الفئة، على الطرف الأول، هم «التجار الكبار» الذين يقومون بتأمين مستلزمات الإنتاج، أو على الطرف الآخر من «التجار الكبار» أيضاً، الذين يقومون بعملية تسويق الإنتاج، قبل أن يصل إلى حلقة التسويق الأخيرة (تاجر المفرق الصغير) كواجهة للسوق متحملاً كل تبعاتها، دون نفي مسؤوليته وفقاً لحجمه طبعاً، وصولاً الى المستهلك بالنهاية، الذي لا تختلف معاناته عن معاناة المزارعين.

أمثلة عيانية حية

على سبيل المثال لا الحصر، من الواقع المعاش، ومن خلال بعض ما ورد مؤخراً في تقرير عضو المكتب التنفيذي المختص المقدم إلى السيد محافظ طرطوس، وبالتالي إلى مجلس المحافظة للمناقشة:
هل يعقل في بلد يتغنى كل المسؤولين في خطاباتهم عن الأمن الغذائي وكيفية كسر الحصار «الإمبريالي» علينا، والتوجه لزراعة كل شبر من الأرض، وفي هذه الظروف وبضربة واحدة تخرج 30% من المداجن عن العمل، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج؟!
أو مزارع يملك عشرة بيوت بلاستيكية، يبيع خمسة منها لكي يستطيع تأمين مستلزمات الخمسة الباقية، لإعادة دورة الإنتاج، ودورة إنتاج حياته!
أو مزارع ينتظر موسم القمح كي يسدد ما ترتب عليه لقاء خسارة البندورة، مع العلم أن إنتاج كيلو البندورة كان يكلف المزارع (400) ليرة، وباعه وسطياً بـ(150) ليرة، بالرغم من أن سعره بالسوق كان معظم الأحيان محلقاً!
أو مزارع يبيع بقرته الصغيرة كي يداوي بقرته الكبيرة، التي أصيبت بمرض «التهاب الجلد العقدي»، تلك الجائحة التي أثرت سلباً وبشكل كبير على الثروة الحيوانية في طرطوس!

مع الوفد الوزاري في المحافظة

في اليوم الثالث من الاجتماع الدوري لمجلس محافظة طرطوس بتاريخ 14/7/2020، والذي كان مخصصاً لمناقشة التقرير الزراعي، وخاصة «مرض التهاب الجلد العقدي» للأبقار، بحضور اللجنة الوزارية القادمة من دمشق، عبّر قسم من المتحدثين عن ألمهم ومعاناتهم، أو ألم أهلهم، أو ألم من يمثلون في دائرتهم، كمربي الأبقار.
وقد طُرح خلال الاجتماع الكثير من الأسئلة المقلقة والمشروعة، من قبل أعضاء المجلس والحضور، ومنها:
هل هناك دراسة علمية لهذا المرض؟ هل هو جديد؟ هل منتشر في دول الجوار؟
هناك من يقول: إن هذا المرض ينتقل إلى البشر، ما حقيقة ذلك؟
إن الخسائر تفوق إمكانية المحافظة، هناك من فقد قسم من رزقه، وهناك من فقد كل رزقه، هل ممكن محاصرة هذا المرض؟
هل هناك من يعوض الفلاحين عن هذه الخسائر، وخاصة العائلات التي نفقت أبقارها، وبالأصل بعضهم حصل عليها كمساعدات لأنهم من ذوي الجرحى والشهداء؟
هناك سؤال خطير، بأنّ هناك بعض الأبقار نقلت قبل أن تنفق إلى محافظات أخرى، كيف نقلت، وإلى أين، وما مصيرها؟
سؤال قديم يتكرر، حول البقرات النافقة: كيف تصل إلى أماكن الاستهلاك البشري؟ هذا أمر يتعلق بالأمن الغذائي للمحافظة، هل هو بفعل فاعل، أو وجود أخطاء أو إهمال أو أمر فوق إمكاناتنا؟
حول الأبقار النافقة، هل توجد لدى جهات الصحة البيطرية إمكانية حرقها بشكل سليم وصحيح؟ وهل اللجان المكلفة لهذه المهمة مؤهلة ومتمكنة؟
بالنسبة للأبقار المريضة، هل يبقى تركيب الحليب كما هو، وهل يبقى صالحاً للاستهلاك البشري؟ وهل هناك أية مراقبة لعدم بيع حليب هذه الأبقار؟
ما مدى إمكانية صرف تعويضات، ومنح قروض ضمن آلية للدفع سهلة ولآجال زمنية طويلة؟
هل الوحدات الإرشادية ومراكز البحوث الزراعية، تحقق الهدف والغاية من وجودها؟ فقد صرفت عليها المليارات، ونستورد كل شيء!
بالإضافة إلى الكثير من الأسئلة المشروعة الأخرى، حيث تمنى أحد الأعضاء ألّا تصل الأمور إلى مكان نفقد فيه الثروة الحيوانية، كما حدث مع المداجن، أو كما حدث للزراعات في سهل عكار، من الزراعات المحمية إلى بذار القمح المزروع من مؤسسة إكثار البذار، ويعطي «التبن» بدل الحبوب، بالرغم من أن الحبوب المحلية المزروعة تعطي إنتاجاً جيداً، أو بذار البطاطا التي تعطي مردودية غير جيدة!

اتحاد فلاحي المحافظة يحمل الحكومة المسؤولية

بدوره علق رئيس اتحاد فلاحي المحافظة بقوله: إن حجم الأسئلة المطروحة هو تعبير عن حجم المشكلة، وحجم الخسائر بالنسبة للفلاحين، وهذا بحاجة إلى حكومة وليس إلى لجنة وزارية!
مضيفاً: في اليوم الواحد نتعرض لمئات الأسئلة بحكم عملنا اليومي، وهذه ثالث لجنة وزارية تأتي للمحافظة، مشيراً إلى عدم تنسيق هذه اللجان مع الاتحاد، كجهة ممثلة رسمياً وشعبياً لهؤلاء الفلاحين، عندما تأتي!
وحول المرض، أكّد أن أول ما ظهر في اللاذقية، وكان على عاتق وزارة الزراعية المسؤولية للتصرف بسرعة للوقاية منه، لأن الوقاية كانت أهم من العلاج بعد أن استفحل، وهذا ما توصلنا إليه نتيجة تأخّرنا عن محاصرة هذا المرض، يجب تشكيل لجان ودعم وأدوية بالتنسيق مع الاتحاد.

أمثلة إضافية وأرقام

تحدث رئيس اتحاد فلاحي المحافظة عن نفوق أكثر من 500 رأس بقر، وبأنه تم بيع ما لا يقل عن ألف رأس قبل النفوق!
وقد استشهد بأمثلة إضافية من الواقع:
ضابط متقاعد اشترى بتعويض التقاعد خمس بقرات، والآن بعد كل جهده لتحسين وضعه نفقت البقرات الخمس، فذهب تعبه وماله ورأسماله، متسائلاً: من يعوضه عن هذه الخسارة؟
أحد الفلاحين أصيبت بقرته بالمرض، وخوفاً من إصابة الثانية باعها بمشورة الطبيب البيطري الذي يكشف على أبقاره! والنتيجة: البقرات ذهبت، والفلاح موجود في السجن بالأمن الجنائي! متسائلاً أيضاً: هل نحن ذهبنا إلى الفلاحين وأبلغناهم بعدم بيع بقراتهم؟ ومن الذي يجب دخوله السجن؟ من قام ويقوم بتلك العملية، هل الفلاح الذي أراد الحصول على إمكانية معالجة البقرة المريضة؟
وكذلك تحدث عن قطاع الدواجن، قائلاً: قلنا بأن قطاع الدواجن في خطر، نحن أمام حلين، إما بتدمير الإنتاج، أو تعطى حوافز للمربين كي يؤمنوا حاجات السوق ونذهب للتصدير، مؤكداً على ضرورة حماية المنتجين.

تبريرات رسمية وردود غاضبة

تحدث عضو المكتب المختص في المحافظة عن السرعة في عقد الاجتماعات الطارئة، وتشكيل اللجان وتوكيل المهام والزيارات الميدانية للجان، وأنه في أول اجتماع رصد السيد المحافظ 20 مليون ليرة لشراء أدوية وفيتامينات لدعم الفلاحين، وطالب بتفعيل «صندوق دعم المواشي».
أما مدير الصحة الحيوانية في وزارة الزراعة، فقد تحدث عن المرض وتسميته وأسباب انتشاره، بأنه انتشر في سورية على شكل بؤر في مناطق محددة، وتمت محاصرته بسرعة، وذلك في عام 2013م في جبل الحرمون، وفي عام 2019م في منطقة (جورين)، لكنه الآن انتشر في معظم دول الجوار وغيرها، وهذا مرض عابر للحدود، وأول ما ظهرت الإصابة في (القدموس)، وينتقل عن طريق الحشرات الماصة للدم، وقدم عن طريق التجارة غير المشروعة.
ونوه مدير الصحة الحيوانية للتسمية الصحيحة للمرض، وأن إطلاق تسمية الجدري عليه له منعكسان، أولها: ارتكاب خطأ علمي، لأن الجدري مرض ينتقل إلى الماعز والأغنام وإلى الإنسان، وهذا ما يصلنا إلى الثاني: وهو السمعة العالمية لهكذا جائحة في سورية، وخاصة نحن نعمل وفق منظومة صحية عالمية وملزمون ببعث تقارير نصف سنوية، والمعتمد في العلاج من قبل المنظمة العالمية للصحة الحيوانية نعتمده ونعممه، وأحياناً يأخذون لقاحاً أنتجناه نحن ويعممونه عالمياً.
مضيفاً، إنه وبرغم الأحداث في سورية، زارتنا عدة وفود من منظمة الصحة العالمية (الحيوانية) وأقرت بخلو سورية من الأوبئة.
وتحدث مطولاً عن الإجراءات التي من الواجب إتباعها في المعالجة (التشخيص– التحصين– مكافحة الحشرات...) وحذّر من مكان الفضلات، بأنه مكان ملائم لانتشار الحشرات وانتشار المرض، خاتماً: إن الوزارة قدمت 450 ليتراً لرش الحشرات، وخصّت الوزارة طرطوس بمساعدات علاجية وأدوية وغيرها.
الحديث الرسمي أعلاه لم يمر على الحضور دون ردود!
فقد تمت مقاطعة حديث مدير الصحة الحيوانية من قبل أحد الحاضرين، قائلاً بنبرة مرتفعة: أنا مهندس وعضو مكتب مختص في هذا المجلس، وأربّي الأبقار منذ زمن، لم أسمع بهذه المساعدات ولم يصلنا شيء، لا أنا ولا كل الجوار الذين أعرفهم من مربي الأبقار، متسائلاً: إلى أين ذهبت هذه التفاصيل من المساعدات؟

مفاجأة من العيار الثقيل

المفاجأة للحضور خلال الاجتماع أتت من قبل الوفد الوزاري بإعلانه أن حليب ولحم البقر المصاب آمن للاستهلاك البشري، وهكذا تتصرف دول العالم مع هذا المرض، وذلك وفق توصيات منظمة الصحة الحيوانية العالمية!
المفاجأة لاقت استهجاناً من قبل الحضور، حيث علّق أحدهم، مقاطعاً ومتسائلاً: هل يعقل؟ بقرة مصابة بمرض فيروسي، وحرارتها مرتفعة جداً، ومظاهر الوهن وعدم الحركة والتقرحات على الجلد، ورائحة كريهة وفي طريقها إلى الموت، واللحم والحليب آمن؟ إذاً لماذا تم سجن الفلاح الذي باع بقرته؟
ومع ذلك كرر مسؤول الصحة الحيوانية تأكيده على صحة ما قاله سابقاً، وأن الطبيب البيطري عليه إزالة الأماكن المقرحة أو المشوّهة فقط، ولا يوجد أي خطر على اللحوم!

أين صناديق الدعم والتعويض؟

عند كل خسارة يتعرض لها الإنتاج الزراعي بشقيه «النباتي أو الحيواني» في محافظة طرطوس، بفعل الكوارث البيئية أو الطبيعية، ترتفع الأصوات عن فاعلية وجدوى الصناديق المقرة لهكذا ظروف، للتعويض عن خسائر العاملين في هذا القطاع الهام على مستوى الأمن الغذائي.
وجواباً عن سؤال رئيسة المجلس عن الإجراءات المتخذة لمحاصرة المرض والتعويض عن الخسائر؟ تم الحديث عن «صندوق دعم المواشي» الذي أُسِّس عام 2012م، ووضع اتحاد الفلاحين فيه مبلغ 250 مليون ليرة، ولم تأت بعد إليه ليرة واحدة!
وقد تحدث عضو المكتب التنفيذي المختص أنه: تمت مراسلة كل الجهات المعنية، وقلنا: إن الإحصائية متوفرة، وطلبنا تحريك صندوق دعم المواشي، وكذلك طالب بصندوق قديم «التأمين على المنتجات بشقيها الحيواني والنباتي»، وبأن ذلك بحاجة لتشريع وعلى وجه السرعة.
في المقابل قال مدير الصحة الحيوانية في الوزارة: بأن صندوق «دعم المواشي» هو صندوق ريعي استثماري يخص كل جوانب الإنتاج الحيواني، لكن لأسباب متعددة، توقف التمويل، وعزا أحد الأسباب بـ»الحصار على البلد»!

جولة قاسيونية

يشار إلى أن قسماً من الوحدات الإرشادية لم يلتقوا مع الوفد الوزاري، ولم يتلقوا أي دعم يذكر من الجهات المعنية، حيث تركت الأمور للحلقة الأخيرة من حلقات التعامل (بعض نشطاء الوحدات الإرشادية– ضمير الطبيب البيطري– الفلاح الموجوع برزقه).
وخلال جولة لقاسيون على بعض مربي الأبقار في المحافظة، لم يتحدث أي منهم عن أي دعم يذكر قدمته الجهات المعنية! بل الأمور ذهبت إلى أبعد من ذلك لدى أحدهم، بتركه يتحمل نفقة حرق بقرته بذاته، وربما بمعونة معنوية أو «جبر خاطر» أتت من الجيران وهو يجر بقرته لحرقها «الله يعوض عليك»!
وقد عبرت إحدى المربيات عن ألمها مما أصاب مصدر رزقها، وعن استغرابها من تعامل البيطريين، قائلة: طلبت طبيباً بيطرياً مرتين، بعد أن نفق لي (عجل)، خوفاً على البقية، الأول: أخذ مني 40ألف ليرة، في حين الثاني: تقاضى سبعة آلاف ليرة!

بدهيات واقتراح بسيط

أسئلة تتكرر في كل مرة، ومع كل مشكلة وأزمة، لماذا تذهب الجهات المعنية بالتركيز أحياناً على مراسلة بعض الجهات الأمنية للتصرف، قبل أن تستنفد إمكاناتها في حل المشكلة المعنية؟ وتتكاثر الجولات والزيارات الرسمية ذات الطابع الإعلامي والنتائج الخلّبية! هل هو استسهال، أم تهرب من المسؤولية؟!
ولعل مثال الفلاح المحال إلى الأمن الجنائي أعلاه أحدها، وكذلك العمل على متابعة مصير أمكنة الأبقار النافقة، رغم أهمية ذلك طبعاً، وكذلك مثال الجولات الوزارية المتكررة دون طائل يذكر!
أليس من الأجدى أن تستنفر الجهات المعنية كل إمكاناتها وطواقم عملها وتستنهضها لتقوم بعملها بحسب ما هو مناط بها من مسؤوليات، بما في ذلك تقديم الحلول للمشاكل قبل تفاقمها، وتذليل الصعوبات والمعيقات قبل تعقّدها وتشابكها، كحال أزمة نفوق البقر الحالية، والخسائر الكبيرة التي تكبدها المربون، مؤثرة على حياتهم ومعاشهم؟!
بالملموس كمثال، وبما يخص صندوق دعم المواشي، ذا الطبيعة «الريعية الاستثمارية» بحسب الحديث الرسمي أعلاه.
فبحسب إحصائيات الجهات الزراعية، يوجد ما يقارب 23 ألف رأس بقر في محافظة طرطوس، ولكل منها لها رقم تعريف تسلسلي بحسب ما هو مفترض، أليس من الممكن تفعيل عمل هذا الصندوق بما يحقق الغاية منه لمصلحة المربين وتعويضهم عند الضرورة، بدلاً من عبارة «العوض على الله»، من خلال نشر ثقافة التأمين على القطعان بداية، ثم الإلزام بهذا التأمين لقاء رسوم مقبولة ومنطقية، أسوة بالتأمين على السيارات مثلاً؟!

دور السياسات المتبعة السلبي

أما عن حال مربي الدواجن، وكذلك حال أصحاب البيوت البلاستيكية، وحال منتجي الحمضيات، وغيرهم من العاملين في الإنتاج الزراعي «النباتي والحيواني» في المحافظة، ومآل ما وصلوا إليه، توقفاً أو خروجاً من العملية الإنتاجية، مع النتائج السلبية المترتبة على ذلك، سواء على المستوى الاقتصادي المعاشي الخاص بهؤلاء، أو على مستوى تأمين احتياجات الاستهلاك المحلي سعراً ومواصفةً، فربما لذلك شأن آخر مرتبط بمجمل الإنتاج والعملية الإنتاجية في البلد ككل، والدور السلبي للسياسات الاقتصادية الليبرالية المتبعة في هذا المجال.
وقد سبق لقاسيون أن سلّطت الأضواء تفصيلاً حول كلّ منها خلال السنوات الطويلة الماضية، وما زالت.

معلومات إضافية

العدد رقم:
976
آخر تعديل على الإثنين, 27 تموز/يوليو 2020 15:15